كتاب " فوح الشذا ( أزاهير أردنية في الأدب والنقد ) " ، تأليف د. يوسف بكار ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
أنت هنا
قراءة كتاب فوح الشذا ( أزاهير أردنية في الأدب والنقد )
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
فوح الشذا ( أزاهير أردنية في الأدب والنقد )
(8)
أمَّا عمَّا في القصيدة من مزاوجة بين الشكل والمضمون، فإنه يُفضي إلى أن حبيباً، الذي نظم على قالبي الشطرين والتفعيلي، يتسوَّر، شأن بعض الشعراء المعاصرين من مثل نزار قباني وعبدالرزاق عبدالواحد وحيدر محمود، قالبَ الشَّطرين إذا ما رغب في أن يتَّجه إلى «الجمهور» مستنهضاً ومؤثراً ومخترقاً وربما محرِّضاً، فالشعر الشطري هو الأنسب ([31])؛ لأن الشاعر الحديث أضاع- في الأغلب- كما يقول نزار قباني([32]) «عنوان الجمهور، فهو يقف في قارَّة والنَّاس يقفون في قارَّة أُخرى».
نظم الزّيودي قصيدته تحت وطأة مخاض عربي غير معهود، لـمَّا تتمخَّضْ غاياته وتتحقَّقْ أهدافه، مدفوعاً بحبِّ الوطن والانغماس في همومه وهموم الملَّة كلِّها التي ما أكثر ما تمثَّلها وباح بها في شعره، وقاتلت قصائده في سبيلها([33]):
إنَّ من حقِّ القصائد أن تقاتلَ
عندما يتخاذل الفرسانُ.
وعلى القصائد أن تُعِزَّ الأرضَ
إنْ ذلُّوا وهانوا
لقد فزع، بداية. إلى «سلمى» في البيتين الأوَّلين حيث «سطَّرها في الكتاب دون دليل»، و«طلبها في الرِّكاب» فأجابت طلبته، و«صدفها في السَّراب»؛ وهو ينزف قولاً وجوابه حاضر حضوراً موارباً لعلَّه يكون أبلغ من البوح المباشر والجهر الصُّراح، فراح «يعزف»، ويا له من عزف، بما عليه الأحوال عامة، عزفاً حزيناً على نعيب البوم بالخراب والمَحْل والجفاف والذُّبول، وعلى نعيق الغراب الذي يظلُّ، وإن نُعِتَ بالجميل!، قبيحاً ونذير شؤم لا ينذر بغير رفع السُّتر والحُجُب عن المعاناة وسوء الحال والتردِّي والفساد وتحريم الحلال وتحليل الحرام.
«سلمى» في القصيدة هي المحور والبؤرة. فمن أو ما هي سلمى هذه؟ لقد جُسْتُ خلال شعر حبيبٍ كلِّه فوجدته قد ذكرها مرَّة يتيمة على الحقيقة وليس مجازاً أو قناعاً في قصيدة «بيت بعيد في الضَّباب»، فقال([34]):
والآن وحدَك في ضباب الأربعينْ
ولم تَعُدْ سلمى هناك ولا ربابْ
ليست «سلمى» القصيدة الأخيرة من هذا الضَّرب، ولا من ضرب «سلمى» إيليا أبي ماضي، وهي أُمُّه، في قصيدة «المساء»([35]):
والبحر ساجٍ صامتٌ فيه خشوع الزَّاهدينْ
لكنَّما عيناك باهتتان في الأُفْقِ البعيدْ!
سلمى بماذا تفْكُرينْ؟
سلمى بماذا تحلُمينْ؟
قد تكون «سلمى» حبيبٍ حلماً ورمزَ «نهوض» أو «هبّة» أو «حَراكاً» عربياً عاماً متعدَّدة أماكنُه، متقاربة أزمانُه، لاسيَّما أنه هو ذاته أنَّثَ، مثلاً «هبَّة نيسانٍ 1989» دون أن يرمز إليها باسم أيِّ امرأة، وخاطبها بالغالية في قصيدة «أقمار نيسان»([36]):
لماذا تأخَّرتِ أيتها الغاليهْ
وضيَّعْتِ كلَّ المواعيدْ
بيني وبينك أُغنيتانِ
وشوقٌ قديمٌ،
وشعبٌ يغنِّي المواويلَ للشُّهداء الذين ثَوَوْا في الترابِ
أوَ لم يسطِّرها في الكتاب شعراً؟ لكنه حين طلبها في الرّكاب استجابت، وحين تخيَّلها سراباً فاضت مخيِّلته فيضاناً موارباً بتداعيات الحال وما يتلاطم في جنباتها من ويلات دون أن يشرح أو يفصِّل، فبذرها في التراب عسى أن تنبت، من جديد، ثمراً جنيَّاً؛ ولم يجأر جأرَ أبي العتاهية في العصر العباسيِّ الذي ما أكثر ما نُعِتَ بالتَّرف واللَّهو والمجون، وما كان كلُّه كذلك([37]):
إني أرى الأسعارَ أسـ
ـعار الرَّعيَّة غاليهْ
وأرى المكاسبَ نَزْرةً
وأرى الضَّـرورةَ فاشيهْ
وأرى غمومَ الدَّهر را
ئحةً تمُرُّ وغاديهْ
وأرى المراضعَ فيه عن
أولادها متجافيهْ
وأرى اليتامى والأرا
ملَ في البيوت الخاليهْ
يشكون مجْهدةً بأصـ
ـواتٍ ضِعافٍ عاليهْ
مَنْ يُرْتجى لدْفع كر
بِ مُلمَّةٍ هي ما هيهْ؟!
مَنْ للبطونِ الجائعا
تِ وللجسومِ العاريهْ؟!
ونبت الغرس، وانقلب السِّحر بصيحة «النيل» التشخيصيَّة «وصاح تحت الموج»، والاستجابة الفوريَّة العامة لها؛ فانقلب المشهد مُوشَّىً باستدعاءات دينيَّة «باب الله وكتابه القرآن الكريم»، و«محمد» (ص)، و«عصا موسى»، و«روح عيسى وأُمُّه البتول»، دونما صادٍّ أو كابح جماح: «هيهات تمنعُكَ الحرابُ»، و«لا تَمْنَعُك الخيولُ». لقد انطلق حصان الشَّعب، فسُدَّت أبواب النجاة من كلِّ صوبٍ في وجه البُغاة والطُّغاة والظَّلمة الفاسدين، فلا خروج ولا هروب، ولا أموالَ، ولا ملاذَ بعد الآن.
وانطلق حبيب مع حصان الشعب بامتطاء صهوة جواد أبي القاسم الشَّابي، الذي ساقته إليه مخيِّلته الوقَّادة وما جرى في تونس الخضراء، فجادت:
والشَّعبُ حين يريدُ تنبجسُ العواصِفُ والسُّيولُ
إن قال قولاً أنصتوا يا شانئيه ولا تقولوا
وأعاد «النغمة» عينها بأسلوب «إطنابٍ» تكراريٍّ تأكيديٍّ في مقطع القصيدة، مستبدلاً استبدال تقوية وتأكيد لفظة «تنهْمر» الأقوى تدفقاً بـ«تنبجس»، ولفظة «سارقيه» بـ«شانيئه»، لأنها أدلُّ في التعبير عن أعداء الشعوب وسارقي مقدَّراتهم! مستدعياً شعار الشَّابي الذي ودَّع الحياة وعمره لا يزيد على نصف عمره هو! فمضى الشَّابي وظلَّ شعاره خالداً:
إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة
فلا بدَّ أن يستجيب القَدَرْ
ولا بدَّ للَّيل أن ينجلي
ولا بدَّ للقيْد أن ينكـسرْ
وتنفَّس حبيب الصُّعداء، وآتت الانطلاقاتُ بعضَ أُكلها التي راح يتلوها متِّخذاً من الصُّور التشخيصيَّة ملاذاً فنيَّاً: «قاده النجم الدليل» و«اللَّيل جرَّ على الرَّباب». ثم عاد إلى «سلمى» فقطَّرها مستريحاً في الشَّراب مترقِّباً أن تنضجها الشَّمول سحابةً، فتحققت الرؤيا والرؤية، فجادت مطراً غزيراً.
إن حبيب الزّيودي ليس بجديد على هذا النمط من القصائد التي تمثِّل الوجه الآخر من الولاء والمحبَّة للوطن والأمة جمعاء والتصاقه بهما أيـَّما التصاق. إنه في هذا كمصطفى وهبي التل (عِرار) وليّ نعمته الشعرية الذي التمس منه حبيب أن يبعد غمامه عن حقوله، لأنه أضحى «تهاميَّاً» ووالده «نجديَّاً» في قصيدته المشهورة «مئوية عِرار»([38])، لكن أنَّى له هذا؟!
فكما كان نزار قبّاني متعباً بعروبته كما تبدَّى جليَّاً في قوله من قصيدة «أنا يا صديقة متعبٌ بعروبتي([39])»:
أنا يا صديقة متعبٌ بعروبتي
فهل العروبةُ لعنةٌ وعقابُ؟!
أنا متعبٌ ودفاتري تعبت معي
هل للدَّفاتر يا تُرى أعصابُ؟!
حزني بنفسجة يبلِّلها النَّدى
وضفافُ جرحي روضةٌ مِعْشابُ
لا تعذليني إن كشفتُ مواجعي
وجهُ الحقيقة ما عليه نقابُ!
من أين يأتي الشِّعر حين نهارُنا
قمعٌ وحين مساؤنا إرهابُ؟!
سرقوا أصابعنا وعطرَ حروفنا
فبأيِّ شيءٍ يكتبُ الكُتَّابُ؟!
كان حبيب متعباً بأحزانه وقهره وما يتناثر من حوله، وما أقسى الغربة في الوطن([40]):
وأشتهي وطناً يُقاسمني عذابي
هل تفهمين الآن حزني واغترابي؟!
إن اللُّصوص يوزِّعون على بناتِ اللَّيل أحلامَ المؤابي!
سرقوا النَّهار الطِّفل باسم الانتماء إلى التُّرابِ
سرقوا بيادرَنا وشَعْرَ بناتنا
وتآمروا ليلاً على الشُّهداء باسم الانتماء إلى الترابِ
هل تفهمين الآن حزني واغترابي؟!
ويلاه من أُمٍّ يُباع حليبها
والجوعُ يشبع من بنيها!
هكذا توأمَ حبيب توأمةَ مفارقةٍ وتقريرٍ بين «الانزياح» في اللُّغة و«تفجيرها» أو «تثويرها» بتصوير يشفُّ عن قمة المأساة والمعاناة لا يُفزع إليه إلاَّ في الجأر بالمثير والمدهش وغير العاديِّ. وهو يكاد يضاهي ما سبقه إليه خليل مطران في قوله في بطلة مُطوَّلته «الجنين الشَّهيد»([41]):
وكم ضاجع الجوعُ الأثيم بهاءَها
فقبَّلها حتى أجفَّ دماءها!