كتاب " فوح الشذا ( أزاهير أردنية في الأدب والنقد ) " ، تأليف د. يوسف بكار ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
أنت هنا
قراءة كتاب فوح الشذا ( أزاهير أردنية في الأدب والنقد )
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
فوح الشذا ( أزاهير أردنية في الأدب والنقد )
(6)
إذا ما أُبقي على القصيدة بالترتيب الذي نشرت به، وهي من بحر الكامل، لا يؤخذ قول الشاعر في «منازل أهلي» (ص64):
يجوز لنا لحظة الوجد
أن نكسر الوزن
أن نهمل القافية..
لا يؤخذ على حقيقته، بل يُعكس ويُفسَّر تحديّاً وانفكاكاً من ربقة الوزن وخروجاً عليه، خروجاً إيقاعيَّاً إيجابيَّاً إضافيَّاً جديداً، يُدرج في دائرة تحليق الشاعر البعيد الإبداعيَّة، وهو الذي كان الشعر عنده حالة أو حالات، ومزاجاً أو أمزجة، كما يقول في قصيدة «عندي مزاج» (غيم على العالوك، ص48):
حلِّق بعيداً فالمدى مفتوحْ
إذا أُبقي عليها تكون سبعة عشر بيتاً موشَّحة بتجديد عروضيٍّ موسيقيٍّ صاغ الشاعر فيه بحر الكامل من «ثماني» تفعيلات بدلاً من «ستٍّ». وقد نحا محمد مهدي الجواهري قبله هذا المنحى في مقطوعة من أربعة أبيات بعنوان «بغداد في الصَّباح»، نظمها على تفعيلة بحر الرَّمل «فاعلاتن - ٮ --» دون أن تكون لا من «التَّام» ولا من «المجزوء». بل جعل كلَّ بيت في «خمسٍ» من تفعيلاته أصليَّة ومزاحفة، خلافاً للمألوف المتعارف عليه، فقال ([11]):
صفَّقَ الدِّيكُ وقد زعزعه الفجرُ وألوى بالصَّباحِ
ومشى النُّور على الحقل وفوق الدَّربِ يُزْهى والبِطاحِ
آهِ ما أروعَ بغدادَ وأحلاها على ضوءِ الصَّباحِ
غسلتْ كفُّ السَّنا كلَّ الجراحات بها حتى جراحي
لعلَّ الجواهري، الذي عاش في إيران وكان يعرف الفارسيَّة، تأثر في هذا بالعروض الفارسيِّ، الذي لم يتقيَّد تقيُّداً كاملاً بالعروض العربي- وإن اتكأ عليه كثيراً- لا في الدوائر ولا في عدد التفاعيل في بعض البحور. فالبحر الكامل الذي نظم عليه الزّيودي قصيدته يأتي في العروض الفارسيِّ ثُمانيَّاً لا سُداسيَّاً، أي أربع تفعيلات في كلِّ شطر. وهو يندرج في ما أسموه «السلسلة الثامنة» بدلاً من «الدائرة» التي تتألف من «عشرين» مقطعاً، في حين أنها عند الخليل بن أحمد «خمسة عشر» مقطعاً ([12]).
وإذا ما أُبقي عليها، فإن فيها، كذلك، تجديداً موسيقيَّاً آخر خارجيَّاً، هو أنها «مصرَّعة» الأبيات كلّها. وهذا غير معهود، إلَّا في ندرة، في قصيدة كاملة من شعر الشطرين، قديماً وحديثاً، في ما أعلم.
فالقدماء كانوا يصرِّون على أن يُصرَّع «مطلع» القصيدة في الأكثر وإلَّا عُدَّ «مُصْمتاً» أو «مجمَّعاً»([13]). غير أن بعض الشعراء كانوا يُصرِّعون في غير المطلع. وقد عدَّ قدامة بن جعفر([14]) التصريع بكلِّ ضروبه «من اقتدار الشاعر وسعة بحره»، لأن «بنية الشعر إنما هي التسجيع والتقفية، فكلَّما كان الشعر أكثر اشتمالاً عليه كان أدخلَ في باب الشعر وأخرجَ له عن مذهب النثر». وأثنى على امرئ القيس فيه «لمحلِّه من الشعر»، وربما لأنه ركَّبه في مقطوعة «لاميَّة» كاملة في بحر الرَّجز، وأنه كان يعاوده في القصيدة الواحدة كما في «المعلقة»، وفي القصيدة «الرائيَّة» التي مطلعها([15]):
أحارِ بن عمروٍ كأنيَ خمِرْ
ويعدو على المرء ما يأتمرْ([16])
حيث صرَّع ثلاثةَ أبياتٍ أُخرى، حتى إن ابن سنان الخفاجي قال([17]) «إنه كان ممن يلهج به من المتقدمين». أمَّا المقطوعة اللاميَّة، فهي([18]):
يا لَهْفَ هِنْدٍ إذ خَطِئنَ كاهلا
القاتلين المَلِك الحُلا حِلا([19])
خيرَ معَدٍّ حسباً ونائلا
وخيرَهمْ قد علموا شمائلا
نحن جلبنا القُرَّحَ القوافلا
تالله لا يذهب شيخي باطلا([20])
يحْمِلْننا والأَسلَ النواهلا
وحيَّ صَعْبٍ والوشيجَ الذَّابلا([21])
مُسْتثفراتٍ بالحـصى جوافلا
يستـشرفُ الأواخِرُ الأَوائلا([22])
وصرَّع عنترة بن شدَّاد أبياتاً ثلاثة لا واحداً في مقدمة معلَّقته.
وتابع قدامةَ ابنُ رشيق القيرواني([23])، وابنُ سنان الخفاجي، وابنُ الأثير([24])، وإن احترزوا من كثرة التصريع في القصيدة الواحدة خشية التكلُّف إلَّا من القدماء.
اللافت المثير للدهشة أن ابن الأثير ألحقَ مقطوعة مصرَّعة، كالتي في قصيدة حبيب الزّيودي، لشاعر لم يسمِّه وعدَّها «من محاسن الصنعة»، ألحقها بِـ«لزوم ما لم يلزم» بحجَّة أن اللفظة الأخيرة مصغَّرة في كلِّ شطر.. المقطوعة هي:
عزَّ على ليلى بذي سُدَيْر
سوء مبيتي ليلة العُمَيْر([25])
مقبِّضاً نفـسي في طُمَيْر
تنتهز الرّعدة في ظُهَيْر([26])
يهفو إلى الزّوْر من صُديريَ
ظمآن في ريحٍ وفي مُطَيْر
وازِرَ قرٍّ ليس بالعُرير
من لدُ ما ظَهْرٍ إلى سُحَيْر([27])
حتى بدت لي جبهة القُمَيْر
لأربعٍ خَلوْن من شُحيْر
أمَّا في الشعر الحديث، فركب هذا الضرب من التصريع غير مرَّة في القصيدة الواحدة، مثلاً، الشاعر العراقي عبدالرزاق عبدالواحد في الثلاثة الأبيات الأولى من قصيدته المشهورة «يا صبر أيوب» برويِّ اللام المضموم (1992)، فقال([28]):
قالوا وظلَّ ولم تشعر به الإبلُ
يمشـي وحاديه يحدو وهو يحتملُ
ومخرز الموت في جنبيه ينتشلُ
حتى أناخ بباب الدَّار إذ وصلوا
وعندما أبصروا فيضَ الدِّما جَفَلوا
صبرَ العراقِ صبورٌ أنت يا جمَلُ
وركبته، كذلك، الشاعرةُ المغربيةُ أمينة المرّيني في البيتين الأوَّلين من قصيدتها (ترانيم عند مقام «الهو»)، فقالت([29]):
النُّور هو وفي الأنفاس عسجدُهُ
والنَّار هو وكم يُرْضي توقُّده
والماء هو وروح الصبِّ مورده
والنَّسم هو ومن نفسـي تنهُّده
مهما يكن الأمر، فإن تصريع القصيدة كاملة يشي باقتدار الشاعر وسعة معجمه اللغويِّ، وهو ما يذكِّر، في جانب آخر، بصنيع أبي العلاء المعريِّ في «لزوم ما لا يلزم» الذي ابتدعه متعمِّداً، لعاملٍ تعويضيٍّ نفسيٍّ، وكاد ينفرد به، وإن جاء عَرَضاً عند نفرٍ من الشُّعراء قبله.