كتاب "علي فودة..
قراءة كتاب علي فودة.. شاعر الثورة والحياة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
غادرنا كومضٍ خاطف
في حياته القصيرة التي امتدت ستةً وثلاثين عاماً، حاول الشاعر الفلسطيني الشهيد علي فودة الذي غادرنا كومض خاطف، أن يحكي لنا شيئاً عن فلسطين الجريحة من خلال ما يستحضره من تاريخ وتراث مضطربين، ومن أجل فلسطين الثكلى بقيت الأحلام تراوده على أرصفة بيروت، وبقيت أشعاره ممنوعة التجوال في المدن والعواصم العربية، ومن أجل فلسطين أيضاً دفع علي ثمن التزامه بقضيته أثناء حياته، ودفعه حين سقط شهيداً في موقع متقدم من مواقع الدفاع عن الثقافة والفعل الإنساني، كما دفع الثمن بعد استشهاده فلم يجد من يؤبّنه أو من يكتب عنه.
وهكذا راح علي، بهذه الروح الإنسانية، وبقدرٍ كبيرٍ من الوعي والإحساس بالمسؤولية، يتحسس أوجاع أهله وآلامهم. وفي كثير من التفاؤل والاعتداد بالنفس وبالشخصية الوطنية، راح يغذي نقمتهم ويزرع في نفوسهم الحقد المقدّس على الأعداء، ويبشّر بالارتباط الوثيق بالأرض والوطن.
وقد شاءت الأقدار أن يرحل شاعرُ فلسطين وعاشقها الكبير علي فودة، وقلبُه حزينٌ على وطنه، وعلى شتات شعبه٬ وعلى ضياع أحلامه، ليترك وراءه دواوينَ وروايات وقصائدَ ودراساتٍ وغناءً، تُخبئها مكتباتُ فلسطين والعالم بين نفائسها الغاليات، وقد تميّزت تجربته الإبداعية بالنضج والثراء ووضوح الرؤيا، ويتضح ذلك جلياً من خلال القصيدة التي تحمل عنوان «مدخل» في ديوان «عواء الذئب» الصادر في بيروت عام 1977 التي يقول فيها:
«لغير فلسطين لن أنحني
فيا سيّد الاضطهاد اضطهدني إذا شئتَ
صادرْ نوايايَ
خذ لمعة البرق من عالمي
ضع ولو صخرةً في فمي
خنجراً في دمي
زرَداً
قنبلة
ولكنْ تذكّرْ بأن الذين سيأتون من بعدنا
ذات يوم سيبنون مملكة السنبلة
وسوف يكون على بابها رأسكَ المتآمرُ
في المقصلة!» (عواء الذئب، قصيدة: مدخل، ص185).
وربما كان الشاعر الراحل علي فودة في ذلك الوقت، أي سبعينيات القرن الماضي، تمثيلاً لأفقٍ آخر، وصوتاً فارقَ تقاليد الشعر السائد آنذاك، ليخلق بذلك فضاءً شعرياً متوهجاً، صحب فيه العذاب دهشة الكتابة الشعرية، ومن ذلك الأفق خلق نسيجاً متـفرّداً بمنوال صبغت ثِيَمَهُ ألوانٌ أسطورية من منابع غريبة وكاملة الجـدّة، مكّــن منها تجوالٌ صهر روحه بمختلف تضاريس فلسطين، وحساسياته الإثنية والحضارية، ودوّن في نفسه أسئلةً مصيرية ظلّت تتوارد عليه من مطارح شديدة الاختلاف والتمايز، ليكتشف بذلك صيرورةً شعريةً جديدة، ارتكزت على هوية ضاع عنها طويلا ًدون أن ينتبه إليها، لقربها الشديد واللصيق من روحه وقدره، وتاريخه.
وعلى الرغم من أن بعض النقاد يقولون بأن أدب علي فودة يستمد قيمته من موضوعه الفلسطيني لا من مستواه الأدبي والفنيّ، إذ يرى البعض منهم أنّ شعره يمكن تصنيفه ضمن شعر الإيديولوجيا القومية، أو الشعر السياسي،.. على الرغم من ذلك، إلا أن هذه مجرد أحكام نقدية انطباعية مكرورة، وليست صحيحة، وفي تقديري أن القراءة الناقدة المنصفة لأعمال علي فودة ستدحض ذلك في كثيرٍ من نتاجه الشعري؛ إذ أن نتاجه يندرج في إطار الكتابة النضالية غير المنصاعة لمنهج سياسي أو حزبي أو أيديولوجي، بل هو شعرٌ منتمٍ للحلم الأكبر، والأوسع في دائرته من تلك الآفاق، ولذا، صار شعره معرضاً بانورامياً لأحداث فلسطين، وشاهداً على أدقّ لحظات حياتها.
وفي حال رغبنا أن نُسكّن علي فودة في خانةٍ، حيث يهوى النقّادُ أن يسكّنوا الشعراءَ في خاناتٍ وزوايا ومراتب، فإننا سنكتشفُ أنّه شاعرٌ متمردٌ عابرٌ للمدارس الشعرية، وهو شاعرٌ مختلفٌ عن أبناء جيله، ولم يقع في شراك أحد، وهو شاعرٌ صعبٌ عصيٌّ على التصنيف النقدي، فهو شاعرُ النضال الشرس، وشاعرُ الحب النقيّ والحُنوّ العذب، وشاعرُ البراءة والطفولة، وهو في الوقت ذاته شاعر الرفض والتمرُّد والغضب... شاعر الثورة والحياة، وشاعر الحداثة وما بعدها.
وبعد، فهذا هو علي فودة، شاعرٌ أصيلٌ ملتزم، بسيطٌ في كل شيء، في لغته وأسلوبه، في أدائه وانتمائه، واضحٌ في دلالته، عميقٌ في أصالته، صادقٌ في تعبيره عن هموم شعبه وأمته، مشحونٌ بروح التمرد والثورة؛ وهذا هو الالتزام بمعناه الذي ينسجم مع فكر الشاعر وتوجّهه.
ولا أجدُ في الختام كلاماً أبلغ من كلام لوركا في رثاء أغناثيو، مصارع الثيران الباسل، حين صرعه الثور، فقال: «سيمضي وقت طويل ليولَدَ، إن وُلِدَ، إنسانٌ مثله». ولعلّ هذه المقولة، أكثر ما تنطبق على علي فودة؛ إذ سيمضي وقت طويل ليولَدَ، إن وُلِدَ، إنسانٌ بمثل صفاته وجرأته، وبمثل عبقريته كشاعرٍ، وصاحب فكرٍ نيّر.