كتاب "علي فودة..
قراءة كتاب علي فودة.. شاعر الثورة والحياة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
شاعر القلق والتمرُّد
والتَّسكُّع فوق الأرصفة الباردة
مهدي نصير*
لم ألتقِ علي فودة الذي استشهد في حصار بيروت عام 1982 وكان لكثيرٍ من أصدقائي ذكرياتٌ معه وعنه، هذا الشاعر المتمرّد والغاضب والحالم والعاشق والمتقلِّب والمتوتِّر والمأزوم والحزين كطفلٍ، والعالي كسنديانةٍ، والمتدفِّق كشلاَّلِ شِعرٍ لا يهدأ ولا ينضب ولا يتراجع.
كنتُ أقرأ علي فودة ويعجبني هذا التدفُّق اللغوي العالي وهذه الصُّور التي تقفز مجنونةً لا تضبطها بلاغة اللغة ولا إيقاع العروض الذي بقي علي فودة متمسِّكاً عفويَّاً بتفعيلاته التي طوَّعها ولم تأسره، وساقها لروحه ولم تَسقْه لبلادتها وكهوفها ورتابتها واستعدادها للانقضاض على القصيدة والتهامها قبل ولادتها، أو لتأكل لحمها الطريّ إذا وُلدت على حياءٍ بعيداً عن أوتادها القاسية.
كنتُ أقول لنفسي إن علي فودة لا يكتب القصيدة، بل هي التي تفيض عن جرحه، وتتشكَّل في غابات حزنه، فيبرعمها لتحمل من بركان نيرانه الجوَّانية ومن أشواقه المريرة وخساراته ومراراته وأحزانه العُضال، وانكساراته المزمنة وخيباته المتراكمة وأفراحه المغدورة، وربما كان هذا التدفُّق الشِّعري هو ما ساعد علي فودة على الاستمرار والتحمُّل ومواصلة الموتِ البطيء الذي كان يعانقه صباح مساء، وعلى أرصفة المدن التي عشقها وخانته، والتي عبدها فأقصته بعيداً، وقرَّبت الأوغاد والجواسيس والعسسَ: فطوبى للغرباء!
لا أكون مبالغاً أو بعيداً عن فهم قصيدة علي فودة إذا ما قلتُ إنه كتب قصيدةً واحدةً طويلةً هي ملحمة النضال الفلسطيني منذ النكسة 1967 وحتى الخروج من بيروت، حيث استشهد برصاص وقذائف الغزو الهمجيّ الصهيوني قبل الخروج الأسطوري للحلم الفلسطيني من بيروت.
سأقرأ هنا أعمال علي فودة الشعرية، الصادرة عن المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر وتضمُّ ستَّ مجموعاتٍ شعرية، هي:
1. فلسطيني كحدِّ السيف، 1969.
2. قصائد من عيون امرأة، 1973.
3. عواء الذئب، 1977.
4. الغجري، 1981.
5. منشورات سريَّة للعشب، 1982.
6. قصائد متفرِّقة.
في «فلسطيني كحدِّ السيف» نقرأ القصيدة الغاضبة وذات الإيقاع العالي والتقفية التي تقترب كثيراً من القصيدة العمودية في بلاغتها وصورها وتفاعيلها، نقرأ نموذجاً على ذلك من قصيدة قصيرة بعنوان «عناق»:
«قبّليني
قبّليني
واقطعي لحم شِفاهي
واشربيني
ارضعي رمشي وجفني
واحضنيني
بين عينيكِ.. ازرعيني
اعصري ماء عيوني
حطِّمي عشرين ضلعاً من ضلوعي
مزِّقيني
عفِّريني بالتراب
بينَ أشجاركِ عودي
وادفنيني.. إلخ » (ص23).
في هذه القصيدة القصيرة نقرأ ملامح قصيدة علي فودة الأولى التي لا تخرج في شكلها عن نمط القصيدة التفعيلية العربية التي سادت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والمتأثرة في شكلها وإيقاعاتها ببدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة، والقريبة في تركيبها ومناخاتها اللغوية والسياسية واستلهامها الموروث الشعبي الفلسطيني من قصائد سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زيَّاد في تلك المرحلة.
في المجموعة الثانية «قصائد من عيون امرأة» نبدأ بقراءة صوت علي فودة الذي بدأ يتشكَّل عبر تجربةٍ ذاتية قاسية ومؤلمة وعميقةٍ راحت تعمل على إنضاج تجربته ومنحها خصوصيتها، ففي هذه المجموعة خمسُ لوحاتٍ تضمّ كل لوحة مجموعة من القصائد التي خفتَ بها الإيقاع العالي، واتجه الشاعر إلى عالمه الداخلي ليمتح منه صوراً قاسيةً تتماهى مع عوالمه الفعلية القاسية على المستوى الفردي والسياسي والمعيشي والعاطفي.
وتبرز في هذه المجموعة صورة تلك المرأة: الأسطورة القابلة للتأويل والقراءة، التي هي امرأة من لحمٍ ودم ومن حلم ومن رؤيا ومن أشواقٍ تمتزج بها فلسطين بالعشيقة بالأم بايزيس وكليوبترا وعشتار وليلى ...
نقرأ من هذه المجموعة قصيدةً قصيرة بعنوان «عيناكِ»:
«عيناكِ طائرانِ طارا، حوَّما في الشرقِ
حطَّا في بلاد الشام
عيناكِ طائرا حمام
باضا وفرَّخا بقاعِ قلبي
عيناكِ شعلتانِ في الظلام
أضاءتا دربي الطويل
عيناكِ مالي وأنا البخيل
عيناكِ يا حبيبتي..
عيناكِ زادي في السفر
عيناكِ فرحة الصغار بالثلوج والضبابِ والمطر
عيناكِ حمَّامُ العصافير
ورقصةُ الغجر
عيناكِ يا أروع من عيونِ (إلزا).. إلخ» (ص113).
سنلاحظ أوَّلاً أن إيقاعية التفعيلة ما زالت سيَّابيةً وعاليةً ولم يتحرَّر منها الشاعر، وإن بدأ يتململ ليحاصرها ويطوِّعها ويخفيها كتابعٍ لقصيدته لا كسيِّدٍ يتبخترُ بحمولته ونياشينه وطبوله التي لا يتحملها عالم علي فودة الحقيقي والناضج والمليء بالحجارة المنحوتة بيديه المجرَّحتين لا بيديِّ السياب أو البياتي وغير هذين الشاعرين.
أما في المجموعة الثالثة «عواء الذئب» المليئة بالهمِّ السياسي والتنظيمي وقراءة تحولات الثورة وإرهاصات انحرافاتها واختراقها، ففيها يبرز الغضب من الخيانة والأدعياء وممن بدأوا يتسلّقون الثورة ويسرقونها ويحرِّفونها، إذ يقول علي فودة في قصيدة بعنوان « المنبوذ »:
«أحلمُ أني يوماً ما
سأخرُّ صريعاً
في أرضٍ ما
في بحرٍ ما
في دربٍ ما
لكنَّ المطرَ – الدمَ سوفَ يروّيني
(كان العطشُ هو السيِّدُ
كان العطشُ هو الربُّ الأوحدُ
كنتُ أصيحُ: اسقوني..اسقوني
ما ردَّ أحد).. إلخ» (ص195).
في هذه المجموعة أيضاً تبرز تلك المرأة الأسطورة التي هي من لحمٍ ودمٍ وحلمٍ وتبرز أيضاً المشهدية والحوار الذي يدور معها وحولها وبها، القصيدة في هذه المجموعة تنزل إلى اليومي والعادي والمليء بالشِّعر الغائب والعالي الذي إليه ينتمي علي فودة وله سيغني ما تبقَّى من حياته حتى استشهاده عام 1982.
ومن قصيدة «ما لم يقله ماياكوفسكي للوردة» نقرأ:
«هَو..هَو..
كان الجرو المبلولُ على أرصفة العالم يتسكَّع
يبحثُ في مزبلة التاريخ
عن جُحرٍ يؤويه، وكنتُ أجرُّ العَرَبة
هَو.. هَو..
وقف الجروُ
وقفت
- من أنتَ؟
- أنا الغربةُ
ضحكَ الجرو، فأدهشني يا أمي العذبة
أني جئتُ إلى هذا العالمِ من رحمكِ أنتِ
لا من رحم الكلبة
ثمَّ بكيتُ وثانيةً رحتُ أجرُّ العَرَبة» (ص224).
في هذه المجموعة أيضاً تعود القصيدة السياسية المباشرة والقوية والمؤثِّرة التي تعالج اللحظة السياسية السائدة، كقصيدة «شالوم..يا حبي/ يا حبي..شالوم» التي تتحدث عن السادات وخيانته للقضية الفلسطينية والعربية وإخراجه لمصر من الصراع العربي الصهيوني؛ يقول علي فودة:
«stop
ها قد طلع الباشا مرتدياً خوذته الفرعونية
معتمراً نجمةَ داوود
وعلم الإمبريالية
ها هوَ ينتعل الجنرالات ويمضي
يتسوّل بعض الدولارات ويمضي
يتنقل ما بين عواصم خائنةٍ، والتلفزيوناتُ الورقيةُ تحتفلُ بفرحتها الكبرى:
طلع الباشا
نزل الباشا
عاش الباشا.. الباشا.. الباشا
يتطاول يا وطني هذا الباشا
يتطاولُ حتى تسقطَ من فكيه اللغة العربية
يجهل أو يتجاهلُ
يافا، الجولان، المنوفية.. إلخ» (ص251).
وفي هذه المجموعة أيضاً نجد مراثي لشهداء الثورة الفلسطينية: أبو علي إياد، كمال ناصر، كمال عدوان، أبو يوسف النجار، باسل الكبيسي، غسان كتفاني، جيفارا غزة، وغيرهم.
المجموعة الرابعة المسمَّاة «الغجري» تتحرَّك في أجواء الثورة والحلم والمرأة والحزن والانكسار والنبوءات والخيبات، والموت الذي يقترب والأصدقاء الشهداء، والشهداء المنبوذين، والغربة وأرصفة العالم الباردة، في هذه المجموعة تتشكَّل قصيدة علي فودة الْمُرّة، والعذبة والقاسية والشهية، التي تطبخ اللغة وتطيح بالإيقاع التقليدي وتؤسِّس لمشهديةٍ شعريةٍ خصبةٍ ومتحركةٍ وغنية، وفي الوقت نفسه تبقى ضمن نسق قصيدة التفعيلة العالية، التي أحكمت سيطرتها على الإيقاع والتفاعيل وشكمتها، وأدخلتها كخادم للقصيدة لا كسيِّدٍ لها، فنقرأ من قصيدة «الملعون»:
«جاءني
حدَّقَ في عينيَّ
ما ثرثرَ
ما فاهَ بحرفٍ
سالَ من عينيهِ خيطٌ من حنان
وادعاً كان وفي لحيتهِ الحمراء شيءٌ سائلٌ كالماءِ
دماً كان؟ خمراً كان؟
لا أدري
ولكني تلفتُّ إلى الحائطِ
في الحائطِ شقٌّ
بسمةٌ سافلةٌ في الشقِّ
يا للظمأ القاتلِ في الصحراء يا..
ثمَّ شربتُ الماء من لحيتهِ الحمراء:
- تاريخيةٌ لحظتنا هذي
تبسَّمَ
ومضى..لم يتكلَّم.» (ص297).