كتاب "علي فودة..
قراءة كتاب علي فودة.. شاعر الثورة والحياة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تختفي في هذه المجموعة كل البلاغات التقليدية للشِّعر، وتبرز فقط تلك الكتلة الشعرية الحزينة العارمة التي تفيض بالشوقِ إلى بلادٍ بعيدةٍ وأمٍ بعيدةٍ وامرأةٍ بعيدةٍ وأصدقاء بعيدين ومطرٍ بعيدٍ وحياةٍ بعيدةٍ وبردٍ وصقيعٍ، وهي لا تأتي ولا تُطلُّ من الباب أو من الشُّباك ولا تهدهد رأسه الذي غزاه الشيب.
من قصيدة «رياح الخماسين» يقول علي فودة:
«معتَّقةٌ جرار الخمرِ فوقَ شفاهكِ الخضراء، مثقلةٌ غصونكِ بالهوى الورديِّ
ردفكِ شامخٌ
عيناكِ شمبانيا ولوزٌ أخضر، نامي إذن...
لا تنقري فوق الشبابيكِ العتيقةِ، اسكتي...
كُسر الزجاجُ وضاع قفل الباب
هشير الضحكة الأولى تورَّد فوقَ وجهكِ ذات صيفٍ، فاعترتنا دهشةٌ...
هل تذكرين؟ تدحرجتْ فوقي وفوقكِ شهوة الأعشاب
وكان الكوخُ تعمره عصافير الحديقةِ،
عنكبوتٌ
وردةٌ مهووسةٌ
قشٌّ
وإبريقٌ من الفخَّار
وبعض التمرِ، بعض الخبزِ، آثارٌ من الخطواتِ، أسماكٌ، مصابيحٌ من التذكار
نظرنا فجأةً... فبكى سياجُ السورِ، وارتعش الحشيشُ وعربد الصبَّار
رياحٌ لستُ أدري ما اسمها هبَّت، فكان دوار
فتحنا البابَ... عاصفةٌ هنا وهناك... إلخ» (ص342).
في هذه المجموعة «الغجري» قصيدة شعرية ذات حضورٍ وذات شخصية لغويةٍ وإيقاعيةٍ ومشهديةٍ تتوالد وتتناسل وتتقافز ككائناتٍ حيَّةٍ، تبحث عن عائلةٍ تبوح لها وتجلس في وسطها وتعلن العالم مملكةً للغرباء وللفقراء والمتسكعين على هامش هذا العالم القاسي والمرعب والملعون.
المجموعة الخامسة المسمَّاة «منشورات سرية للعشب» هي أكثر المجموعات نضجاً وحزناً وبكاءً وغربةً، وربما أيضاً إحساساً بــ(لا جدوى العالم)، وإنكِ أنتِ أيتها المرأة الأسطورة، الأم، الحبيبة، الوطن، الثورة، الصديقة، الأنثى الوحيدة القادرة على انتشاله من هذا الضياع الذي يلفُّ العالم والأشياء.
يقول في قصيدة بعنوان «فرس البحر»:
«كنتُ سأبكي تعبَ العمرِ على صدركِ/ كنتُ قد بدأتُ خلع معطفيَ الرثِّ؛ لأنهار على ساعدكِ البضِّ جريحاً أو قتيلاً/ كنتُ.. لكن الفَراشَ غادر الزهور باكراً هذا الصباح/ طائر البطريقِ عاد للنواح/ من يعرف كيف تذبل الوردةُ؟/ من يعرف كيف تُزهر الرياحُ؟/ من غيركِ يعرف سرَّ العاشقِ الجوال؟/ من يروِّضُ الزلزال؟/ من يفهم هذي اللغةَ البكر؟/ ومن يجرؤ أن يبحر في طوفانها؟
يا فرس البحر
ويا فرس البحار كلها؟» (ص401).
يتناسل الحزن في القصيدة، وتُصيب الحُمَّى اللغةَ التي تشتعل من حمولاتِ روحٍ غريبةٍ تائهةٍ حالمة، ترى النسغ الأعمق للوردة، وترى الذئاب التي تحوم حولها لتحزَّها من الوريدِ للوريد، فتلهث هذه الروح وتصرخ في وجه العالم وتبحث عن حُرَّاس الوردِ لتوقظهم ليدافعوا عن أيقونة الجمال والحب والخير في هذا العالم البائس الطافح بالتفاهة والزيف، المنفوخ، المتعفِّن.
من قصيدة «الفرس الحبلى» التي تتفجَّرُ فيها الكلمات وترتطم الصُّور بروح الشاعر القلقة الوثابة والباحثة عن خلاصٍ، نقرأ هذا المقطع الشعري العالي بلغته وموسيقاه وصوره ووثوبه ونكوصه:
«تحمحمُ هذه الفرسُ الجريحةُ... هل أتاها الطلقُ؟/ أعرف أنها حبلى/ وأعرفُ أن ماء النهرِ يحرس كاحليها..هل أتاها الطلقُ؟/ سيدة المراعي ودَّعتني واستراحت في حقول النارِ/ تلهثُ..يلهث الفقراءُ/ تصهلُ..يصهل الغرباءُ/ قولي: هل أتاكِ الطلقُ؟/ أنا لا أرى في الجوِّ/ غير الغيمِ/ بين البحرِ والغاباتِ صوتُ رصاصةٍ أزَّتْ/ وفي الطرقات جُندٌ.. هل أتاكِ الطلقُ؟/ أتعبنا انتظاركِ.. ما الذي أعياكِ؟/ كيف تأخر الحملُ الجميلُ؟/ ضعيه مولوداً فريداً أيّها الفرسُ الأصيلةُ/ وزِّعي نظراته بين المدائنِ أيّها الفرس الأصيلةُ/ لقِّحي منه الصبايا الفاتنات/ ضعيه../ضعي أسراره/ أفراحه/ أحزانه/ خلّيه يأتيني/ أودُّ لقاهُ قبل الموت» (ص440).
أما المجموعة القصيرة السادسة المسمَّاة «القصائد المتفرقة» فهي خمسُ قصائد من مرحلة أوائل السبعينيات ومن مرحلةٍ مبكِّرة في تجربة علي فودة وتدخل ضمن نسق القصائد الأولى للشاعر.
علي فودة كان شاعراً كبيراً جسَّدت حياتُه قصيدتَه العالية والقلقة، وجسَّدت قصيدتُه حياتَه المضطربة والقلقة والموحشة والغاضبة والعطشى إلى شيءٍ غامضٍ كان يراه حيناً أمّه التي تركته صغيراً وماتت، وحيناً أباه الذي أهمله وحيناً حبيبته التي هجرته وحيناً تلك المدن الكثيرة التي أحبها، واضطهدته وشرَّدته وحيناً تلك الثورة التي مسخها الأدعياء فأخرجوه ونبذوه وهو العاشق الحالم القابضُ على جمرها، وهم الأوغاد والمتكسِّبون والمرتزقة، وحيناً كان يراه في المسيح وتضحيته وفي بلال الحبشي وعنفوانه، وفي عروة بن الورد وصعلكته، وفي لوركا وفي نيرودا وماياكوفسكي وغسان كنفاني والشهداء والأنبياء والشُّعراء والفقراء والغرباء والمنبوذين، وفي كلِّ الأحيان كانت فلسطين هي الحلم الأعلى والمرأة الأنقى والوطن الغامض الذي يشتهي أن يموت ويُدفن في ترابه.
يقول الشهيد علي فودة في قصيدة بعنوان «الحجر الفلسطيني»:
«عنقي تحت السكِّين
ولكني يومياً أمتشقُ سيوفَ النارِ وأُشهرها
في وجهِ القمعِ، وأهتفُ
باسمِ فلسطين» (ص248).
علي فودة صديقي الذي لم أصافحهُ يوماً:
تلوتَ على الأصدقاءِ قليلاً من المطرِ الحامضِ
وقليلاً من اللوعةِ حينَ كنتَ تسوقُ القصائدَ في الطُّرقاتِ البعيدةِ
تبحثُ عن عشبةٍ لأيائلك البيض في ليل هذا الخراب الطويل
صديقي الشهيد: عليكَ السلام.