أنت هنا

قراءة كتاب نجمة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نجمة

نجمة

كتاب " نجمة " ، تأليف كاتب ياسين ، ترجمة السعيد بوطاجين ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 5

4

سوزي بفستان الأحد. "لست بحاجة إلى دعامة الصدر، الحمد لله، ليس بـي ألم في النهدين". ذهبت إلى السوق بسرعة فائقة، وضعت القفة في المطبخ وسلكت الطريق الواسع عابرة أرضا بورا. هناك في البعاد يمتد مرعى، جرت إلى غاية العشب الكثيف وأهملت نفسها بين النرجس. كانت الشمس لافحة، أغلقت عينيها بعض الثواني وانتصبت بقشعريرة مستديرة بوله نحو القرية، كأن وحشا فاجأها، لادغا إياها من الكعب، دون أن تقوى على التخلص من اللدغة أو الشعور بها. وشاهدت في الطريق فلاحين على صهوات البغال، ثم برز مراد في المنعرج.

- صباح الخير آنسة.

توهمت سوزي أن الفلاحين ينظرون إليها وهم يخزون رقاب دوابهم، اقتربت من مراد عندما مر الفلاحون، وإذ كانت دانية منه قام بحركة متراجعا.

- هل أنت بخير؟

- أتجول.

- أسرعا الخطى.

- كان مراد يمشي مطأطأ الرأس.

- اتركني.

"هكذا إذن، فكر مراد، مر الجمال وغدوت عاملا يدويا عند أبيها، ستكمل سيرها عبر الأرض البور، كأني اغتصبها بمجرد أن أتجول في الجهة نفسها. كأنه لا يجب أبدا أن نوجد في عالم واحد، إلا بالمشاجرة والاغتصاب، وهاهي تخاطبني بصيغة المفرد، وتقول لي اتركني، كأني أمسكتها من خصرها، أو فاجأتها وأكرهتها. العمال أيضا يعلمون أنهم فاجأوها وأكرهوها بمجرد أنهم أبصروها، هي التي ليست لا من عالمهم ولا من عالمي، بل من كوكب مستقل، من دون عمال يدويين، ومن دون فلاحين، ماعدا إن تجلوا هذه الليلة في كوابيسها... لو ضغطت على نهديها؟". ثم لم يعد يفكر سوى في ضربها، في رؤيتها طريحة الأرض، في التقاطها وإعادة إسقاطها من جديد- "إلى أن تستيقظ كمسرنمة سقطت من عل، بكل هذه المعتقدات الباطلة، حتى لو مت دون أن أعلم بوجود عالم، لا عالمها ولا عالمي ولا عالمنا أيضا، ولكن، وببساطة، العالم الذي ليس في طور الرجل البدائي، في طور المرأة البدائية، العالم الذي لا يحتفظ طويلا بآثارنا الواهنة، بذكرياتنا الشاحبة، هذا كل ما في الأمر". هكذا فكر مراد. ولكن سوزي أحجمت عن الضحك حاليا. إنها حمراء كلها، انـزعاج عابر من شيم أية فتاة شابة، إنها تهدئ غضبه." "ستذهب". لم ينبسا ببنت شفة. "إنها تنظر إلى جهة النرجس، هناك حيث كانت نائمة قبل قليل، مبللة، وحيدة، منفرجة". احمر مراد، واستعاد وجه سوزي المحمر صرامته فانطلقت راكضة.

- كدت أن أغويها.

- كيف، كيف، ماذا، أوّاه؟

اقترح عليه أمزيان الشرب، وكان في مقدمة الحانة الحديثة. تجاوزت المعلمة الخمسين، وتحسر أمزيان على ماله. ولكنه الليل، إنهما أرقان من شدة التعب. الحانة مضيئة قليلا، تبدو قاحلة، تنخفض الأصوات، ترتفع، تسكت كخم في الغسق. تجاوزت المعلمة الخمسين، دون الحديث عن الإرهاب والضجر المخيمين على القرية بعد العمل، وحتى على الحانات وبيوت العائلات الكبيرة. طلب أمزيان مزيدا من الشراب بتذمر من خاب أمله في السعادة، وكان يحدث نفسه قائلا: إن ظهور النسوة لا تنبئ بحقيقتهن أبدا: عجائز أو مسنات، فاتنات أو محتشمات، ماعدا لو كشفن عن وجوههن... أليس كذلك؟ كيف ذلك؟

- كدت أن أغويها، قال مراد.

- فقط؟

- قال أمزيان مقطبا: أنا أفهمه. ماذا يمكن أن نقول لفتاة في الطريق، خاصة إذا كانت ابنة رئيس الفرقة! ومن ذرية أخرى، فضلا عن ذلك... من الأحسن أن نبقى صديقين... سأحكي لكم كيف كنا نتسلى عندما كنا نشتغل في المدينة، قبل أن أجد نفسي في ولاية أخرى، في الوقت الذي لم أكن أعرف كيف أشد مجرفة...

ابتسمت المعلمة ابتسامة فتاة:

- بإمكاني أن أفتح لكم حسابا جاريا إن كنتم تشتغلون عند السيد إرنست.

شكرها مصطفى المعلمة وصافحها. لم تعد الحانة تشبه الخم، إنها تلمع كأحد المطارات. وضع رشيد نظاراته السوداء وطفق يبحث عن خصم وهو يدمدم مراعاة للأعراف: "كنت واثقا من أننا سنجد دائما شيئا نشربه، أما فيما يخص فتح حساب لدى صاحب المطعم الحقير، فيجب أن نجتهد...".

أفرغت المعلمة النبيذ الخفيف. لم يُرخِ الليل سدوله بعد، غير أن الشمس أظلمت، وراحت السماء تنطفئ مثل كومة رماد متأجج في الأحداق المشعة للشاربين، وفي الألق الأسير للزجاجة التي تعيد ما استولت عليه والرأس مقلوب، مليء بالنور الهائج المثلج.

- قال أمزيان: كان ذلك في وهران، وكنت صغيرا، كنت أشتغل في أي شيء، وكان لي صديق في سني جاء من الصحراء لكسب قوته. كنا نعمل في الحمام نفسه. كنا أنا والعربـي، نقوم أحيانا مقام المدلك. نأتي بالماء الساخن. وكان لنا صديق آخر من الصحراء يأتي بالماء النقي من الربوة ويبيعه. كنا إذن، نحن الثلاثة، من سلك واحد: نبيع الماء، ونلتقي مساء في الغرفة الواسعة، ومرة جاءنا بهذه العلبة ذاك الذي يبيع الماء الصالح للشرب...

- هاتها.

- وماذا وضع بداخلها؟ مسحوق تبغ.

- فقط... تنشيقة بين الفينة والأخرى. ولكننا وجدنا هذه المرة شيئا آخر في العلبة...

- ماذا وجدتم؟

- معجونا.

- وبعد؟

- معجون التمر...

- في العلبة؟

- نعم، أكلنا نحن الثلاثة.

- إيواه؟

- رغم الرائحة...

- ماذا؟ كيف؟

- رائحة التبغ، كنا نرى دقاق الأغصان في المربى. من الأحسن عدم المضغ... "إنه غبار"، قال الصحراوي الآخر، ناقل الماء الصالح للشرب. أكل العربـي، أنا أيضا أكلت. كان فعلا غبارا، ولكن الرائحة...

- وبعد؟

- قال العربـي: رحنا نضحك.: "معجون غريب، معجون غريب". أما أنا فلم أقدر على التحمل، كأني أكلت بأنفي. كان الصحراوي الآخر شاحبا، وقال إن رائحة التبغ تجيء من القاعة، وليس من العلبة. كان ذلك قريبا من الحقيقة. كانت القاعة تفوح بالعرق والتبغ، ولكننا بدأنا نضحك ونحن ننـزلق على قباقيبنا، هناك حيث كان الزبائن يشخرون خفية متظاهرين بتجفيف جلودهم. لقد طردونا لأننا كنا نضحك كثيرا. ثم فهمت...

- ولكن ماذا؟ قال مصطفى، ماذا فهمت؟

- ... استنتجت بسرعة أنها غبرة الحشيش، ولكني كنت آكل مع العربـي وأعاود: "معجون غريب، أليس كذلك؟". لو أن واحدا منا ذكر كلمة حشيش لما أكلنا بالتأكيد، ولكننا بذكر معجون، فعلناها. في البداية سخنا. كنا نظن أنه البخار، وأعطانا الصحراوي الآخر قمصاننا: "نقوم بجولة، شدة وتزول". ولكن الأمر في الخارج لم يكن على ما يرام، كنا نرتعد، ومع ذلك كنا نمزح ونغني بالفرنسية: "الهي، سكَر".

وتساءلت لماذا كنا نغني هذه الأغنية. غير أن حمال الماء كان أكبر منا، أدخلنا إلى حانة يهودية، ولا ندري كم من أنيسون أفرغنا في بطوننا. كنا في النهاية موتى. ذهب اليهودي للبحث عن سيارة أجرة، ودفع الثمن لإعادتنا إلى الحمام.

- وبعد؟

- النشوة الثانية لا تساوي الأولى.

الصفحات