أنت هنا

قراءة كتاب الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة

الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة

كتاب " الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة " ، تأليف د. إسماعيل الشطي ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 8

5.1 الاقتصاد والنظام المالي

في مجتمع القرية تتضاءل السلطة السياسية وتلعب المسؤولية الاجتماعية دورا أساسيا في صناعة الأعراف التي تنظم العلاقات المختلفة في المجتمع، ويوم جاء النبـي(صلى الله عليه وسلم) قرية يثرب لم يكن هناك سلطة سياسية واضحة ولا أجهزة تتولى مسؤوليات عامة، فلقد اكتفى المجتمع بالأعراف السائدة التي تنظم علاقاته وأمره، ومع مجيء النبـي(صلى الله عليه وسلم) تشكلت أول زعامة في القرية ذات صفة دينية وسياسية، وأول إنجاز سياسي لتحويل القرية إلى مدينة والقبائل إلى أمة كان إعلان وثيقة سميت "الصحيفة" تتضمن بنودا حول تضامن المؤمنين في إعطاء المعاقل (الديات)، وفداء الأسرى وإعانة المثقلين بالديون، و"الصحيفة" بهذا نقلت الأفراد من الانتماء للقبيلة إلى الانتماء للأمة الإسلامية الناشئة، فالتضامن بين أبناء القبيلة الواحدة كان معروفا في الجاهلية، أما التضامن بين أبناء المدينة الواحدة الذين تربطهم رابطة العقيدة، لا النسب، فأمر لم يطبقوه بينهم قبل ذلك، كما نظمت الصحيفة علاقات المسلمين بغير المسلمين (اليهود) في المجتمع الواحد، غير أنها لم تتضمن أية التزامات مالية سوى ما يتحمله الفرد من تجهيز نفسه في حالات الدفاع عن يثرب، وكانت الخطوة الثانية هي بناء مقر للاجتماع الديني والسياسي سمي مسجدا وأصر النبـي(صلى الله عليه وسلم) دفع قيمة الأرض بشكل خاص، ورغم أنه(صلى الله عليه وسلم) خط للمسلمين سوقا إلا أنه لم يفرض جباية أو ضريبة أو رسما، وفي السنة الثانية من الهجرة فرضت الزكاة لتصبح هي البداية الحقيقية لواجبات المواطنة الجديدة، لكنه(صلى الله عليه وسلم) استمر في تكريس المسؤولية الاجتماعية في تكافل المجتمع وحل مشاكله المالية بالتبرع الطوعي دون اللجوء إلى تحصيل إيرادات يؤمن فيها احتياجات المجتمع العامة، وتمثل ذلك بتبليغ التوجيهات الإلهية لبذل المال في سبيل الله، والتصدق على الفقراء، وذوي الحاجات، وبذله جهادا لإعلاء كلمة الله تعالى، لم نجد حالة واحدة حوّل فيها الرسول(صلى الله عليه وسلم) الحث على العطاء التبرعي إلى إلزام وإجبار، رغم أن الممالك المجاورة كانت تفعل ذلك وتفرض الضرائب بأنواع متعددة، وكان أول إيراد ذي بال دخل خزانة الدولة هو غنائم وأسرى معركة بدر في السنة الثانية للهجرة، حيث وزع أربعة أخماسها على المقاتلة، وترك خمس الخمس للدولة، تتصرف فيه حسبما ترى في مصالح المسلمين، ومع غنائم الحرب وفريضة الزكاة وضعت اللبنة الأولى للجهاز المالي في الدولة الإسلامية، ورغم نشأة هذا الجهاز لكنه لم يعرف أن الرسول(صلى الله عليه وسلم) أجرى رواتب، أو أعطيات دورية، لموظفي الخدمة العامة، أي أن الخدمات العامة كانت تقدم تبرعا من قبل الناس، وبقى التبرع الطوعي يشكل مصدرا أساسيا في سد الاحتياجات العامة مثل إطعام الوفود القادمة، وبناء المساجد وإمدادها بالإنارة والمياه، وأمور الرعاية الاجتماعية، كشراء أو حفر الآبار وتخصيصها للاستعمال المجاني للناس جميعا، ولم يستثن من ذلك تجهيز الجيوش والمهمات العسكرية، وأول تفكير لمواجهة الاحتياجات المستقبلية للمجتمع كان بتخصيص نصف أرض خيبر ثم فدك للنوائب، ثم جاءت الجزية كثالث إيراد عام للدولة بعد أن فرضها(صلى الله عليه وسلم) على نصارى نجران ومجوس هجر والبحرين، ونشأت الملكية العامة بعد التوسع في الوقف وبعد أن أمر بحبس ربقة أرض له في خيبر وجعل غلتها في سبيل الله، كما دعي عثمان(رضي الله عنه) ليشتري مربدا كان بجوار المسجد ويضمه للمسجد النبوي[30]وقفا لله تعالى، وأن يشتري بئر رومة ويجعلها سقاية للمسلمين وله أجرها[31]، وليبدأ بذلك تشكيل الملكية العامة، كما ظهرت في هذه الفترة ممارسة الاقتراض العام، إذ اقترض النبـي(صلى الله عليه وسلم) من أبـي ربيعة (غير مسلم) أربعين ألف درهم وردها إليه من إيرادات بيت المال[32]، ويلاحظ من ذلك كله أن السياسة المالية للنبـي(صلى الله عليه وسلم) لم تقم على التخطيط طويل الأجل للإيرادات العامة، حفاظا على روح القرية القائمة على المسؤولية العامة والتكافل الاجتماعي والمبادرة الذاتية، غير أن دخول معظم أجزاء الجزيرة العربية تحت طاعة النبـي(صلى الله عليه وسلم) وبداية حقبة الفتوحات الإسلامية في عهد أبـي بكر(رضي الله عنه) فرض على القيادة الإسلامية التخلي عن روح القرية والتزام طابع المدينة وإدارة الدولة، فأصبحت يثرب "المدينة" عاصمة الدولة، وصار المهاجرون والأنصار جزءاً من الأمة الإسلامية، ومع السيل المتدفق من الإيرادات العامة نمت مسؤولية الدولة في الإنفاق وتقلصت المسؤولية الاجتماعية والتبرع الطوعي، وبرز دور الرعاية الاجتماعية في العهد الراشد من صدر الإسلام، فكثرت الجرايات والعطايا والرواتب على الناس، وأضيفت موارد مالية جديدة مثل الخراج[33]والأصول الثابتة العامة "الصوافي[34]والعادية"، واتسعت التجارة الدولية ونشأ معها مورد مالي آخر أشبه بالضريبة الجمركية على البضائع الأجنبية "العشور"[35]، غير أن السياسة التي انتهجها النبـي(صلى الله عليه وسلم) بتقليص الادخار العام إلى أدنى صوره وعدم الالتفات للتخطيط طويل الأجل للإيرادات العامة ظلت مستمرة كنهج في إدارة الحكم الراشد، يروى أن عليا(رضي الله عنه) دخل بيت المال وقال "لا أمسي وفيك درهم"[36]، ومع مجيء الدولة الأموية أخذت أجهزة الدولة طابعا تنظيميا هرميا يعتمد على الولاء للنظام الحاكم، وتلاشت روح القرية المشبعة بالمسؤولية الاجتماعية والتبرع الطوعي والرقابة الذاتية، وظهرت تنظيمات جديدة اقتضتها المرحلة السياسية الجديدة التي رسخت مفهوم الدولة، وتمثلت بالأجهزة التالية: ديوان الخراج وديوان الجند، وديوان الخاتم، وديوان البريد، وديوان الرسائل، وديوان الإنشاء، وديوان العُشْر، وديوان المستغلات[37]، وديوان العمال، كما ظهرت أنواع جديدة من الرسوم والضرائب بعضها كان معروفا أيام الملكيات ما قبل الإسلام، مثل المكوس[38]وهدايا النيروز وهدايا المهرجان، أو رسوم فرضتها الدولة لقاء خدمات مثل ضرائب الفدية وأجور الضرابين وثمن الصحف وأجور البيوت ودراهم النكاح، كما توسعت الملكية العامة للدولة وظهر اسم "المستغلات" وهي أراضي وعقارات ومباني تملكها الدولة ويديرها ديوان مستحدث سمي "ديوان المستغلات"، وأصبح لدى الدولة جهاز وظيفي ونظام رواتب، غير أن الدولة الأموية حافظت على نظام اللامركزية الذي اتبعه الخلفاء الراشدون، فكانت كل ولاية تصرف إيراداتها على مرافقها الخاصة، والباقي يُحْمَل إلى الخزينة العامة بالمدينة أو دمشق، ويمكن القول أن الحكام الأمويين اعتنوا بالتنظيمات المالية عناية فائقة وأصبح (بيت المال) في الدولة الأموية يمثل أهمية عظيمة في تنظيم حركة الأموال داخل الدولة الإسلامية الواسعة، فقد كانت بيوت الأموال تشكل في مضمونها نظامًا ماليًّا متكاملاً من حيث توافر عناصره الرئيسية، وهي الإيرادات والمصروفات والإدارة المالية؛ مما يُدلل على التقدم الإداري الذي تمتعت به الدولة في حينها، وبمجيء الدولة العباسية لم تختلف مصادر إيرادات الخزينة العامة للدولة عن سابقتها، غير أن العباسيين أولوا التجارة الخارجية أهمية كبرى للخروج من شرنقة دار الإسلام ودار الحرب، إذ سيطروا -والإمارات التابعة لهم في أطراف العالم الإسلامي- على الطرق التجارية البرية والبحرية بعد التحكم في شبه القارة الهندية، وتم تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة إسلامية، وهذا ما عبّر عنه عبد الرحمن ابن خلدون بقوله"صار البحر المتوسط خاليا من أي نفوذ للأمم النصرانية بشيء من جوانبه"، ومن أجل تشجيع التبادل التجاري قام العباسيون بإرساء قواعد العمل الدبلوماسي مع دول الجوار ليحل مفهوم السلام بدلا من الحرب، فقد حظيت الجالية التجارية المسلمة باستقرار في ميناء كانتون نتيجة اتفاقية السلم التي عقدت مع ملك الصين[39]، وقد تمتعت برعاية السلطات الصينية وباشرت مهامها في الإشراف على التجارة في الشرق الأقصى، كما أدت اتفاقية الصلح التي أبرمها هارون الرشيد مع بيزنطة إلى تدفق السلع الشرقية إلى بيزنطة وغرب العالم الإسلامي، وعلى منوال ذلك قام الأغالبة بتوقيع معاهدات تجارية مع المدن الاٍيطالية رغم الاحتجاجات البابوية، كما قام العباسيون بإصلاح النظام الجمركي وخففوا الرسوم المفروضة عليه، وفي المجال الصناعي استخدمت المعادن من النحاس والقصدير والذهب والفضة في الصناعات الخفيفة كما تمت العناية بالصناعات التحويلية لتصنيع المواد اللازمة للحياة اليومية كالمنسوجات والمصنوعات الجلدية والزجاجية والفخارية بالإضافة إلى صناعة الصابون والزيت والشمع وظلت الصناعة الثقيلة محدودة للغاية، واقتصر ما عرف منها على صناعة السفن والعتاد الحربـي، بل أن لوازم تصنيع السفن كانت تجلب في غالب الأحيان من بيزنطة، وما أن وصل الدور على العثمانيين في دار الإسلام حتى كانت مالية دولتهم وخزينتها أفضل وأكثر فعاليّة من أي دولة إسلامية سابقة، واستمر نظامهم المالي أفضل نظم عصره وفاق جميع النظم المالية لكل الدول من إمبراطوريات وجمهوريات وممالك وإمارات معاصرة حتى القرن السابع عشر، عندما أخذت الدول الأوروبية الغربية تتفوق عليها في هذا المجال، ويُعزى ازدهار الخزينة العثمانية خلال العصر الذهبـي للدولة إلى إنشائهم لوزارة خاصة تختص بالأمور المالية للدولة من إنفاق واستدانة وإدانة، عُرفت لاحقًا باسم "وزارة المالية"، وكان يرأسها شخص مختص هو "الدفتردار" الذي أصبح يُعرف لاحقًا باسم "وزير المالية"، وكان لحسن تدبير بعض وزراء المالية أثر كبير في نجاح فتوحات السلاطين وحملاتهم العسكرية، إذ استطاعوا بفضل هؤلاء وسلامة سياستهم المالية التي رسموها للدولة، أن يصرفوا على الجيش ويزودوه بكامل المعدات اللازمة وأحدث أسلحة العصر.

وفيما يتعلق بالسياسات النقدية، فقد عرف العرب أهمية النقد كوسيلة لتبادل السلع وممارسة التجارة، إذ سكّت كل من مملكة البتراء والحضر وتدمر وسبأ وحمير نقودها، واعتبرت زنوبيا ذلك أمراً سيادياً خاضت من أجله الحرب مع روما[40]، وفي عصر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) كان النقد المستخدم هو الدنانير الذهبية الرومية والدراهم الفضية الفارسية[41]، وطوال حكمه في يثرب لم يغيّر العملة المتداولة رغم ما عليها من نقوش لملوك وأكاسرة وصلبان ونار وعبارات التثليث المسيحي[42]، ولعل ذلك يعود لخبرة النبـي(صلى الله عليه وسلم) وبيئة موطنه (مكة) التجارية، مؤكدا بذلك أن النقود أداة حيادية طالما تقوم بوظيفتها كوسيلة لتبادل السلع والاحتفاظ بالقيمة، وفي عهد عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) تم إضافة عبارة (لا إله إلا الله) على العملة الكسروية وعلى الوجه الآخر (رسول الله)[43]، أما عثمان بن عفان فقد اكتفى بنقش (الله أكبر)، وفي الدولة الأموية تم اتخاذ نقش على الوجه لشخص واقف يمسك سيفاً ويرتدى رداء طويلاً، وغطاء رأس يدوي يـغطى الكتفين[44]، ومن معادن النحاس والفضة والذهب، ويعتبر عبد الله بن الزبير أول من دوّر الدرهم أي: ضربها بصورة مدورة جيدة، وفي عهد عبد الملك بن مروان فقد تم تعريب العملة وجرى ذلك على عدة مراحل: نقد بدون اسم وبدون لقب الخلافة، ثم نقد يحوي لقب الخلافة فقط، ثم نقد يحوى اسم الخليفة ولقبه الخلافي، ثم نقد مؤرخ، ورغم أن الأمويين أول من سك العملة في دار الإسلام إلا أن العباسيين أولوا عناية كبيرة بضرب العملة، وأمروا بضبط معايير الضرب في دور السكة بدار الخلافة بغداد وفي الولايات، ووقع التنافس بين دور السكة في تحسين جودة الدراهم والدنانير، فكان التعامل بالدرهم في المشرق وبالدنانير في المغرب، ولم يشكل هذا الاختلاف في العملة أدنى عائق في سيولة التعامل النقدي بين أطراف العالم الإسلامي، لاعتماد نظام تحويل من عملة لأخرى بالوزن والعيار حسب سعر الصرف السائد في مختلف المناطق، كما اكتسبت العملة الإسلامية شهرة طيبة في الأسواق العالمية بسبب تحكم المسلمين في التجارة البرية والبحرية، وجرى تداولها في دار الحرب على نطاق واسع، كما تم التعامل بالصكوك بين التجار، أما في العهد العثماني فكانت العملة العثمانية في بداية عهد الدولة تُعرف آكجة ثم مانغر في عهد السلطان مراد الأول، وكانت البلاد الأوروبية المفتوحة تسك عملاتها وفق نظمها مما جعلها تستخدم جنبا إلى جنب مع العملة المحلية في حدود الدولة العثمانية، ثم سكت عملة جديدة (بارا) هي اخف من العملة السابقة (آكجة) في زمن مراد الرابع وكانت تسك العملة في القسطنطينية والمدن الجنوبية فقط، وفى عهد سليمان الثاني سكت عملة سميت"القرش" لتعادل عملة أوروبا في ذلك الوقت إسمها "غروسو" وكانت تُسك من معدن البرونـز النحاس، لكنها في أواخر عهد الدولة أصبحت "الليرة" مرادفًا لاسم العملة العثمانية، وكان يُضاف إليها اسم السلطان الذي صدرت في عهده، فكان يُقال "ليرة مجيدية" و"ليرة رشادية" على سبيل المثال، وكانت الليرة العثمانية تساوي مئة واثنين وستين قرشًا، وأطلق عليها العرب اسم "العثمليّة"، وكانت الليرات العثمانية عبارة عن نقود ذهبية في بادئ الأمر، ثم أصدرت الدولة في عهد الحرب العالمية الأولى أوراقًا نقدية لأول مرة في تاريخ البلاد، بسبب المبالغ الطائلة التي أنفقتها على الحرب، وكان هذا أول تجاوز في تاريخ الإسلام عن سياسة الإسلام في النقد، وأكثرت من الكميات التي أنـزلتها إلى السوق، فهبطت قيمة هذه العملة بالنسبة للنقد الذهبـي والفضي هبوطًا كبيرًا، وظلت الحكومة تصرّ على اعتبار الليرة الورقية مساوية لليرة الذهبية وتجبر الناس على قبضها وتداولها، مما جعل أهل الشام في أواخر العهد العثماني يلجئون للتعامل بالعملة المصرية، ومنها اكتسبت النقود بالشام تسمية "مصاري" و"مصريات.

يتضح من هذا العرض الموجز النتائج التالية:

النتيجة الأولى:

أن نشوء نموذج دار الإسلام جاء نتيجة تطور الأحداث السياسية داخل قرية صغيرة "يثرب"، وأخذت هذه التطورات مسارا متذبذبا بين ثقافة القرى وثقافة الإمبراطوريات، وبين مبادئ الإسلام الأساسية والحصيلة التاريخية لتراث المنطقة الديني، وبين القوة والانتشار والضعف والانحسار، ولم يتشكل هذا النموذج نتيجة نصوص دينية مباشرة، بل ظل صناعة بشرية خضعت لمبدأ التجربة والخطأ، وظلت إدارة الحكم طوال تاريخ دار الإسلام تتطور وتتغير، ولم تأخذ نظاما واحدا ولا أسلوبا مكررا، فلقد مرت بمراحل مختلفة من أشكال الإدارة، بدءا من القرية إلى المدينة إلى الدولة/المدينة إلى الإمبراطورية، كما مرت بمراحل قيادية مختلفة بدءاً من النبوة ثم الزعامة ثم الرئاسة ثم الملك، ولا يمكن اقتطاع مرحلة من مسيرة تطور تلك الإدارة والإدعاء بأنها تمثل النموذج الإسلامي لإدارة الحكم، بل لا يمكن القول بأن كل مسيرة إدارة الحكم (على مدار تاريخ دار الإسلام) تمثل النموذج الإسلامي لإدارة الحكم، ذلك لأن الوحي لم يقدم نموذجا محددا لإدارة الحكم بل تركه لاجتهاد المسلمين.

النتيجة الثانية:

كل النظم والأساليب الإدارية التي اتبعها المسلمون منذ وفاة النبـي(صلى الله عليه وسلم) كانت اجتهادات أملتها الخبرة المتاحة والظروف المحيطة والمصلحة العامة، ولم تكن استجابة لنص ديني، لقد كان دور الدين هو إضفاء القيم والمبادئ الجديدة على هذه النظم والأساليب، ويمكن القول أن المبادئ والقيم الإسلامية تم تنفيذها بشكل رائع إبان إدارة الحكم في عهد الخلفاء الراشدين أو غيرهما، لكن تجاربها الإدارية ليست جزءا من الدين، وتبقى في إطار التراث الذي تتدارسه الأجيال وتستفيد منه، وهذه النتيجة هي ما يفسر رفض الخليفة الرابع(رضي الله عنه) عرض الخلافة مقابل الالتزام بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين أبـي بكر وعمر(رضي الله عنه)، فقال "بل على كتاب الله وسنة نبيه واجتهاد رأيي"، وعندما رفض الالتزام بمنهجي الشيخين رضوان الله عليهما كان يدرك أن الخبرة تتزايد وأن الظروف تتغير وأن المصالح تتبدل، وأن كل ذلك يحتاج اجتهادا جديدا، وكان يريد أن يلفت الانظار إلى الجانب الإجتهادي الفسيح في السياسة والدولة والحكم، لقد خسر فرصته المبكرة بالخلافة احتراما لموقفه وتكريسا لمبدأ مفصلي يحدد سلوك المسلمين بالمستقبل.

النتيجة الثالثة:

إن هذه النظم في نشوئها وتكاملها وتتابعها واستمرارها لا يمكن اعتبارها قائمة بذاتها منفصلة عما حولها، إنما يجب أن ينظر إليها ضمن الظروف الدولية التي أحاطت بها آنذاك، ومن خلال ملابسات الاختلاط بالأمم الأخرى والاحتكاك بثقافاتهم، ولعل هذا يفسر احتفاظ الرسول(صلى الله عليه وسلم) بالنظام النقدي المعمول به في زمنه دون تبديل أو تغيير، كما يفسر إبقاء النظام القضائي ساريا في صدر الإسلام وفق ما كانت عليه القبائل قبل الإسلام مع تعديلات فرضها الدين الجديد، كما يفسّر اللجوء لتقسيم العالم إلى دارين، والذي لم يكن ليتم لو كان هناك سلم دولي، لقد جاء هذا التقسيم كنتيجة للنظام اللاسلمي العالمي الذي يسعى كل طرف فيه إلى توسيع رقعته الجغرافية ومد نفوذه إلى المدى الممكن، يقول الشيخ وهبة الزحيلي "إن هذا التقسيم مراعى فيه حالة الواقع وليس تقسيما شرعيا قانونيا، ولقد انتهينا إلى أنه مجرد أثر من آثار الحرب"، كما جاء مفهوم المواطن والأجنبـي والعبودية مقاربا لما هو معمول به دوليا آنذاك، ومتناسقا مع ظروف وإمكانات العصر، وهذا كله يؤكد الأثر الكبير للمرحلة والواقع اللذين تمر بهما الأمة في صياغة نظمها وتحديد سياساتها.

الصفحات