كتاب " تواضعوا معشر الكتاب " ، تأليف عمرو منير دهب ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع <
قراءة كتاب تواضعوا معشر الكتاب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
على أبواب الأغنياء
الأجوبة المفحمة تدلّ ابتداءً على سرعة بديهة وذكاء، وربما كان ذلك هو غاية ما يُلتمس في الأجوبة المفحمة من دلالات، فالغاية الأبعد والأعمق ممثلة في الإقناع غالباً ما تكون باهتة الحضور في سياق الإجابة التي تُلْقِم السائل حجراً، ويكون ذلك الحجر (الشهير في التراث العربـي) بمثابة الدهشة التي تعقد لسان السائل المستفِز مذكّرة بنقطة ضعف أو معيِّرة بحالة شاملة من الضعف أغفلها السائل في غمرة حماسة، وربما مهدّدة صراحة بما هو أعظم خطراً من العواقب مما أغفله السائل في ذات الغمرة من الحماسة.
ولعل السائل تلك المرّة كان خالص البراءة (وهي حالة ليست نادرة في معرض الأسئلة الداعية إلى المُفحم من الإجابات) عندما قصد أحدَهم سائلاً: "أيّهما أرفع قدراً العلماء أم الأغنياء؟"، وحين جاءت الإجابة مؤكّدة للموروث الثقافي العربـي لاسيما قديمه: "العلماء أرفع قدراً"، كان الردّ المستنكِر من السائل الأول مبشِّراً بما يُمْكن أن يُحتَفى به على أنه إجابة مفحِمة: "فلِمَ نرى العلماء بأبواب الأغنياء ولا نرى الأغنياء بأبواب العلماء؟"، ولكن للأسف كان المسؤول أطول نفَساً في سباق البديهة والإفحام فردّ بالإجابة التي حفظها التاريخ على أنها الأخيرة: "لعلم العلماء بفضل الأغنياء وجهل الأغنياء بقدر العلماء".
بالتجاوز عمّا يثير الإعجاب عادة في مسابقات البديهة من المنطق "الشكلي"، فإن المنطق "المضموني" الذي احتواه الردّ الأخير أعلاه كان مقبولاً تماماً في السياق التاريخي للمسألة التي تعود لقرون عديدة خلت، المدهش أن بقايا واضحة الأثر لتلك النظرة لا تزال إلى هذه اللحظة تعتمل بثقة في الوجه المعلَن للحياة الثقافية والاجتماعية العربية، أما عندنا محليّاً فإن الوجهين (المعلن والمستتر) لحياتنا الثقافية والاجتماعية لا يزالان إلى حدّ كبير نسبياً يحتفيان بتمجيد العلم المحض على حساب المال أيّاً كان مصدره، والمأثرة التي تستحق الاحتفاء في هذا أننا على الأقل لانـزال نحاول أن نطابق بين ما نبطن وما نعلن ما وسعنا الأمر.
من المعلوم الذي لا بأس بالتذكير به في هذا السياق أن الغرب قد فارق النظرة التي تفضِّل العلم (و أيّ شي؟) على حساب المال، فحساب الأخير في البنوك (أو أي وعاء يحفظ المال في حالتيه السائلة والمجمَّدة، ونتجاوز عن المتبخرة) هو ما يزحزح مقام صاحبه في المجتمع صعوداً وهبوطاً، ذاك شأنهم في المقابل سرّاً وعلناً، ولا حاجة لتزكية صنيعهم هَهُنا فالرياء لم يعد يحتل في حياتهم النفسية والاجتماعية غير بضع كلمات تذكِّر بالتعريف المعجمي للمفهوم المنقرض ليس إلاّ.