كتاب " العلامة الشيخ صادق حبنكة الميداني - حياته , علمه , شعره - " ، تأليف د.أحمد محمد سعيد السعدي ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب العلامة الشيخ صادق حبنكة الميداني - حياته , علمه , شعره -
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
العلامة الشيخ صادق حبنكة الميداني - حياته , علمه , شعره -
الحمد لله الذي أنار الأرض بأنجم أهل العِلْم، وجمَّلَها لعبادِهِ بزينةِ أصحاب الصدق، وحلَّاها لأوليائهِ بِصُحبةِ أقران الوفاء، والصَّلاةُ والسَّلام على معلِّم النَّاسِ الخير، وصاحِبِ الفضلِ الأوَّلِ بين البشـر، سـيدِهم محمَّدِ بنِ عبدِ الله، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاه، وبعد:
فَقِصَّتِي مع العلامة الرَّاحِل، الفقيهِ الكبير، الشَّاعِرِ الأديب، الوفيِّ الصَّادِق، قِصَّةٌ تمتدُّ لأكثرَ مِنْ رُبُعِ قرن، على حداثةِ سِنِّي، صحيحٌ أنَّني لا أذكرُ تفاصيلَ بداياتِها، رُبَّما أواخِرَ السبعينيَّات من القرنِ الماضي، أو أوائلَ الثمانينيَّات، غير أنني أذكر عناوين تلك البدايات، فمن ذلِكَ أنني أذكر تقبيلي ليد أخيهِ الشـيخ حسن رحمه الله أواخِرَ حياتِهِ، ودُعاءَهُ لي، يوم اصطحبني والدي معهُ في مناسبةٍ ومكانٍ لستُ أذكرُهُما، للسَّلامِ على الشـيخ، ودافعْتُ مَنْ حولي من الكبارِ بمساعدتِهِ رحِمَهُ الله حتَّى حظيتُ بمنيتي، وكان الشـيخُ حسن رحمه الله يسكُنُ في حارتنا، يمرُّ من جانِبِ بيتنا صباحَ مساء. وأذكر منها أنني صلَّيتُ الجُمُعةَ والتراويحَ خلْفَ شـيخِنا الشـيخ صادق قبل مرضِهِ الذي منعهُ الخطابةَ مُدَّةً من الزمن، وأظُنُّ ذلك مطلعَ الثمانينيَّات، بُعيدَ وفاةِ الشـيخ حسن رحمهما اللهُ تعالى.
أمَّا ما أذكرهُ تماماً فهو حضوري لدروسِ الشـيخ صادِق أواسِطَ الثمانينيَّات، وبالتحديد درسـي الجمعة صباحاً في بيت الشـيخ حسن رحمه الله تعالى، وكان الكتاب الذي يقرأ فيه الشـيخ هو صفة الصفوة لابن الجوزي رحمه الله، والاثنين الذي كان يُدرِّسُ فيه كتاب الجامِعِ الصَّغيرِ للإمامِ السـيوطي رحمه الله، وكان أول حديثٍ حضـرتُ شـرحَهُ يوم الاثنين هو قولُهُ صلى الله عليه وسلَّم: " أُحِلَّ الذَّهبُ والحريرُ لأناثِ أُمَّتي، وحُرِّمَ على ذُكُورِها " وهو الحديث الثاني والسبعون بعد المئةِ الثانيةِ من أحاديث الجامِعِ الصَّغير ، ولأنَّني كُنْتُ صغيراً فلم أُعْنَ بكتابِةِ تاريخِ الدَّرْسِ آنذاك، غير أنَّي تنبَّهْتُ إلى ذلك مُبكِّراً، فقد وجدتُ بدء كتابة التاريخ على كتابي " الجامع الصغير " بعد نحوِ أقلَّ من ثلاثين حديثاً، وقد كان الشـيخ يشـرحُ غالِباً حديثاً كُلَّ أسبوع، وكان بدء تأريخي لحضورِ الدُّروس بِـ 5 رمضان 1406 هـ، الموافِق 13 / 5 / 1986م، وذلك عند شـرح الشـيخِ لحديث: " أخْلِصْ دينكَ، يكفِكَ القليلُ من العمل" ، وأمَّا أقرب تاريخٍ عثرتُ عليهِ لحضورِ درسِ الجُمُعة فهو 27 / 3 / 1987م، وكان الشـيخ يشـرح فيه قولهُ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ مِنْ كُنُوزِ البِرِّ كِتْمَانُ المصائِب" ، وبقيتُ مواظِباً على حضورِ هذين الدَّرسـينِ إلى أواخِرِ الثمانينيَّات حيثُ نشأت بيني وبين الشـيخِ على صِغرِ سِنِّي علاقةٌ علميَّة، كنتُ فيها طالِباً مُحِبَّاً، وكان الشـيخُ فيها شـيخاً متواضِعاً حنوناً عطوفاً.
ولا أودُّ أن أستعرِضَ في هذِهِ المقدِّمةِ تفاصيلَ تلك الفترةِ التي أعتزُّ بِها وأطربُ لِذكراها ؛ لأنَّ ذلِكَ وإن كان يلَذُّ لي تكرارُهُ وتفصيلُهُ، ليسَ هذا مكان الإطالةِ فيه، وأنا أنتقِلُ مِنْ تِلكَ الحُقبةِ إلى مطْلَعِ التسعينيَّات ، بعد أن صـرتُ أتردد على بيتِ الشـيخِ يوميَّاً، أقرأ على الشـيخ، وأُساعِدُهُ في بعضِ ما كان يُعِدُّهُ للطباعةِ في مكتبتِهِ، والتي عمِلْتُ فيها فيما بعد لسنواتٍ عِدَّة.
أذكرُ تماماً أنَّ الشـيخَ طلَبَ مني أن أدرسَ البكالوريا في غرفتِهِ في المسجد، بعد أن أعطاني مفتاحها، ومفتاح المسجد ؛ لأدخل إليهِ حيث أحتاج، وخَرَجَتِ النتائجُ ولم تكن درجاتي كما كان يؤمِّلُ الشـيخ، واستدعاني رحمه الله لجلسةٍ خاصَّةٍ لتقويم النتيجة، وكان اللقاءُ في غُرْفتِهِ في المسجِدِ، ودارَ حِوارٌ بيننا أخبرتُ الشـيخَ فيهِ عن عدم رغبتي في دراسةِ الهندسةِ التي كان يرغبُ أن أعيد السنة لتحصيلِها، وعرضَ عليَّ كُلَّ مساعدةٍ لدراسةِ أيِّ اختصاصٍ أودُّ متابعته، وكان من العروضِ ـ بطبيعةِ الحال ـ أن أدرسَ في كليَّةِ الشـريعة، وهو الأمر الذي كان متعذِّراً في تلك السنة بسببِ حجب طلابِ الثانويَّاتِ العلميَّةِ عن الدِّراسةِ في كليَّةِ الشـريعةِ تلك السَّنة، وهو أمر لم يسبق أن حصَل، ولم يحصل فيما بعد، والمُهِم أنني أبديتُ رغبةً في دراسةِ الشـريعةِ والتخصص لها في الجامِعة، وكان الأمر المتاح لي لذلِكَ أن أعيد الدراسة لكن في الفرعِ الأدبيِّ هذه المرَّة، واشترط عليَّ الشـيخ لذلِكَ شـرطاً، بعد أن بذل جهداً كبيراً في إلحاقي تلك السنة بالكليَّة، وأنا أوجزُ الحديثَ في هذا وذاكَ.
أمَّا جهودُ الشـيخ فتتمثل في أمرين: الأول أنَّهُ كلَّم أستاذين كبيرين من كلية الشـريعة ليسعيا في إلحاقي بها تلك السنة إن كان لذلك مجال قانوني، والأستاذان هما: الأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي، وأذكر أنَّ شـيخنا حدَّثني عن حماسٍ شديد لدى أستاذنا الدكتور وهبة لتلبية رغبةِ الشـيخِ في تسجيلي رغم إغلاقِ البابِ ـ كما ذكرت ـ في وجه دارسـي الثانوية العلميَّة تلك السنة، إلا أنَّ الأمر لم يتم، فسعى الشـيخُ في الطريق الثاني، وهو الطَّلبُ الرسمي من وزير التعليم العالي أن يلحقني استثناءً ذلكَ العام، وكان الشـيخ رحمه الله يوصيني دائماً بالدراسةِ والتحضير للثانوية الأدبيَّة حتَّى إذا لم يتيسَّر الأمر الاستثنائي عدنا إلى الطريق النظامي.
أسرد هذا لِما أظنُّ أنَّهُ يُصوِّرُ جانباً من طبيعةِ الشـيخ النفسـيةِ والسلوكيَّة، كان الطالِبُ مِحورَ اهتمامهِ، ولم يكن التعليم غايته مجرَّدةً عن التربية والتوجيه والمساعدة والمتابعة، بل كان يجمعُ في علاقتِهِ بتلميذِهِ بين هذه الأمورِ كلِّها، باذِلاً في سبيلِ ذلِكَ مالَهُ وجاهَهُ ووقتَهُ وعِلْمَهُ وراحته.
وتأكيداً لذلك فقد أوكل الشـيخ إليَّ إمامةَ مسجدٍ صغيرٍ في الحي، وكان هذا المسجد قد جُدِّدَ بإشـرافِ الجمعيَّةِ التي يرأسُها الشـيخُ، وأبى الشـيخ أن أكتفيَ بأجرٍ أتقاضاه من الجمعيَّةِ، قائلاً: يا أحمد أنا لستُ خالِداً، الوظيفةُ أوثق، وكان أن أرسلني إلى بعض طلابِهِ في مديريَّةِ الأوقاف لأسجِّل رسمياً بأيِّ وظيفةٍ تغنيني عن حاجةِ النَّاس مقابِلَ قيامي بالإمامةِ في ذلك المسجد.
و إلى جانب هذا وذاك سعى الشـيخ في تسجيلي في الثانوية الشـرعيَّةِ مُستمعاً وكلَّم في ذلك الشـيخ عبد الفتَّاح البزم، وكان آنذاك مديراً للثانوية الشـرعية بدمشق، فوافق على ذلك، إلا أن ابنَ الشـيخ قال له بأنَّ المواد الشـرعية قد تكون حِمْلاً إضافيَّاً على الطالب في أخذ الشهادة، فَعَدَلَ الشـيخُ عن فكرته.
وفي هذه الأثناء شعرتُ بوجود فراغٍ يمكنني العمل فيه، فأرشدني الشـيخ إلى أكثر من جهةٍ لأعملَ فيها.
هذا بعضُ ما قدَّمهُ لي الشـيخ من مساعدةٍ للدخولِ في كليَّةِ الشـريعة، فماذا اشترطَ عليَّ في المقابل ؟
لقد قال لي: يا أحمد، نحن لا نريد شهادة الليسانس، إن أردت الدراسة في كليَّةِ الشـريعة فعِدني أن لا تترك ذلك حتَّى تصل إلى الدكتوراه، لا أرضـى بأقلَّ من ذلك . وقلت له: أبذل جهدي إن شاء الله. وحينما أكرمني الله بالحصول على الشهادة جئتُ الشـيخ مبشـراً عالِماً أنَّ ذلك مِمَّا يُسعِده، فقد كان يفرح لي كما يفرح لأولادِهِ، وأذكر أن رجلاً سأله عن عدد أولادِهِ فقال له – رحمه الله -: هم أربعة، وأحمد الخامس. جئتُهُ رحمه الله بعد نحوِ خمسة عشـر عاماً من الوعد، وكنت أظنُّ أنَّهُ نسـي ذلك، فالتفتَ لابنه الشـيخ أنس وقال له: لقد قلت لأحمد كذا وكذا منذ سنين بعيدة، وهاهو قد أنجز ما وعد.
وقد درست في عقد التسعينيَّات عِدَّة كتب على الشـيخ، بعضها مع إخواني، والقليل منها وحدي، لكنَّ الذي خصَّني بِهِ الشـيخ هو رغبته بتعليمي الأدب، وقد جعلني أقرأ بين يديه مختاراتٍ من كتب الأدبِ لنختار واحِداً منها أراه مناسباً لأقرأهُ عليه، وذلك رغبة منه – رحمه الله – في أن أختار كتاباً يتناسبُ ومستواي من جهة، ورغبتي من جهةٍ أخرى، إيماناً منه بأنَّ هذا أجدى نفعاً وأنفع جدوى، ثم إنَّهُ – رحمه الله – صار يكتب لي شطر بيتٍ ويطلب مني إتمامه، ويعطيني بعضَ أبياتٍ ويطلبُ مني النسج على منوالها في موضوعها وقافيتها، لكنَّهُ لمَّا أحسَّ تركيزي على ذلك وصـرفي للوقت في سبيله خاف عليَّ وقال لي: لا يجوز لطالب العِلْمِ أن يطيل الانشغال بهذا، ثم صار يكتفي بأن يقرأ عليَّ بعض ما كتب من الشعر، ولربَّما أراد جبرَ خاطري فكتب لي قصيدةً تشجيعيَّة جاء فيها:
يا خَلِيْلي وأنْتَ أحمَدُ خِلِّ
لكَ روحي وذاكَ جَهْدُ المُقِلِّ
لكَ بِالعِلْمِ لا بِمالٍ ولُوْعٌ
لَسْتَ ترضـى مع الثَّراءِ بِجَهْلِ
كيْفَ أحْوِيْكَ في فُؤادٍ مُعنَّى
ما عساني أُعطي لِمَا لكَ كلِّي
لي في ودِّك النَّزيهِ غَناءٌ
في بقايا الحياةِ عنْ كُلِّ خِلِّ
ما شعوري بأنْكَ عنِّي غريب
بل شعوري بأنْك أقْرَبُ أهلي
بيدَ أنَّي لمَّا رأيْتُكَ شَهْماً
ترْتضـي كلَّ ما أُريْدُ لأجْلِي
دأبُكَ الخيرُ والصَّلاحُ دواماً
لا تُقَضِّـي الفراغَ مِنْ غَيْرِ شُغْلِ
هزَّني ما رأيتُ منك لجِدٍّ
من جديدٍ وقُلْتُ أجْدَرُ مِثْلِي
و في آخِرِ حياةِ الشـيخ أنابني مرَّاتٍ عنه في خطبة الجمعة في جامع الحسن، ثم كلَّم وزير الأوقاف بأن يجعلني خطيباً في أحد المساجد، وتابع ذلك باهتمام، وشاء الله أن يرحل وقد تجهَّزتُ لِسَفَرٍ قَسْري، وكان آخِر ما قال لي: ستمضـي هذه الحال، لا تَهْتَمَّ للأمْرِ كثيراً.
رحِمَ اللهُ الشـيخَ وأسكنه فسـيح جِنانِه.
* * *
هذا طرَفٌ من علاقتي بالشـيخ، وإنَّما هو جانِبٌ من جوانِبِ هذِهِ العلاقة، قدَّمْتُهُ لأمْرٍ يتعلَّقُ بطريقةِ افتتاحِ كُتُبِ الأعلام الخاصَّةِ، وأنا أترك الجوانِبَ الأخرى ليتابِعَها الأخُ القارِئ من قراءة البحث، ولعلَّ من المناسب هنا أن أتحدَّث قليلاً عن منهج البحث وخطته ومصادره ومصاعبِه، وذلِكَ من عادة الباحثين اليوم، وفيه خيرٌ بلا شك ؛ لأنَّ القارِئ يستعِدُّ بذلك للاستفادة من البحث، ويضعُ تصوُّرَه الذهني المُسبق الذي قد يرسِّخُ بعضَ الجوانبِ التي ينشدها أكثر، فتكون الفائدة من القراءة أقرب. وعلى العمومِ فقد اعتمدتُ في كتابة البحث على الأمور الثلاثة التالية مرتَّبةً في الأهميَّةِ: