كتاب "بائع التماثيل" للكاتب والفنان التشكيلي السوري فاتح المدرس، يحوي مجموعة قصص، نقرأ من قصة "بائع التماثيل" التي حمل الكتاب عنوانها: ""كور تسفاتس بوكريا أخشيكمه" بهذا كان ينادي لبيع تماثيله الملونة الصغيرة؛ فالبارون أرتين عجوز أرمني فقد كل شيء خلال هجرته
أنت هنا
قراءة كتاب بائع التماثيل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
عود النعنع
كانت الغمامة الرقيقة قد اكتملت فوق نهر "كيليكيا" المتسرب من أقصى الشمال السوري, والظهيرة تسيل حراً لاهباً فوق تلال "حربة" و "دير شكين", ومن الجانب الغربي للنهر برزت قرية "داكرمان" كأنها عشر حجرات سوداء مبعثرة فوق تل "بركة", ومن دون هذه الغمامة كان الدرب من "صولاق داكرمان" إلى النهر يبدو وعراً ومقشوراً كأنه جلد ضب تحت مجهر.
هذا النهر الوديع, المتواضع, كان كعادته نائماً وقد أغمض عيونه الكثيرة, تحت غلالات من عيدان القصب وأشرطة الصفصاف الحزين, وقد مدد جسده الطويل تحت ظلالها الزرقاء الممتعة بعيداً عن عين الشمس اليقظى بلا رحمة, متوهجة, على كل حصاة نيرانها, تتغلغل بين أيكات الخرنوب وأشواك الكرنج. انظر, إن قرية الجميل يتنفس في الشمال, كأنه نهر حي, وعلى ضفافه ألف قطيع في مراعيه.
ففي هذه الظهيرة المخيفة, أغمضت "عالو" الصغيرة, عينيها الرامدتين, تحجب وهج الشمس بكفيها الدبقتين, تسير إلى النهر مطمئنة, من قرارة نفسها, ورغم الأخطاء الكامنة في شقوق الأرض وبين الصخور السوداء, وبما أنها ذاهبة إلى النهر فقد أحضرت معها رغيفاً واحداً, فإنه يكفي, وليتها أحضرت شيئاً من الحلاوة, إذن لأكلتها. هذا ما جال بسرها الصغير, ولجاءت معها جارتها "نازة", ولعل "دنده" كانت تنازلت ورافقتها, رغما من ثوبها الجديد, ولكن ما الفائدة؟..
ضربت "عالو" كفاً بكف, كما يفعل الكبار, لأنه ليس هنالك أحد, لا حلاوة تأكلها مع رغيفها, ولا جارتها.
وتلفتت إلى الوراء, تمسح جدران القرية البعيدة بعينيها الموجعتين, لترى ما إذا كانت أمها وراء الجدار متمددة على الأرض مريضة, معصوبة الجبين بالمنديل. ورفعت خصلات شعرها الشاحب عن وجهها النحيل, ثم استدارت وسارت صوب النهر.