من المفترض أنني مت، وأن آخر أنفاسي قد صعد إلى السماء، وأنني لن أستطيع فتح عيني مرة أخرى لرؤية هذا العالم، ولا أعرف أيضاً إن كنت لا أزال أتنفس بانتظام ونبضات قلبي تتسارع في مهامها اليومية.
أنت هنا
قراءة كتاب الحمامة بعباءتها السوداء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

الحمامة بعباءتها السوداء
الصفحة رقم: 2
كنت في حالة هذيان -هل كنت أهذي كسقف تعلق بجدران أربعة ترفعه بسموٍّ وعلو، سقف يحدق ويبتسم، يعرف كل شيء ولا يتكلم بشيء- حين أفكر في شكل موتي الذي خافت منه جارتي حين جاءت صباحاً لتقص علي منامها الذي تزعم أنه فض غشاء مضجعها، بوليمة من سهاد رتج السقف لوقعها، وتخلى عن نظراته الساخرة العلنية عليها، وحدق إلينا والرعب يملأ وجهه؛ لأنه ما من تفاصيل تتوزع على وجه السقف يمكن أن نتكئ عليها، فهو إما وجه أو مؤخرة، كل شيء في هذه الحياة له وجه ومؤخرة: الملعقة نأكل بوجهها، ونلعق مؤخرتها عندما نوشك على التهام آخر قطعة من الحلوى، ويمكننا أن نستفيد منها في تسوية أسطح الطعام، وكذلك القدر، دائماً تسخن النار مؤخرته ويملأ وجهه بالطعام، حتى الحمارين اللذين كانا يثيرانني في طفولتي، لمؤخرتيهما قصص كثيرة، أحدهما كان ينهق، بينما كان الآخر يلعق مؤخرته ويشتمها، النهيق كان يملأ أذن القرية، بينما عيناي مسمرتان تشاهداهما بكل اهتمام، غير آبهين بطفلة السادسة التي تقف على مقربة منهما تتابعهما يومياً باكتراث شديد، وفي أحد الأيام وقعت حادثة للحمارين، كنت أقف في المكان نفسه الذي اعتدت أن أراقبهما منه يومياً، وإذا بي أشاهد شيئاً لم أره من قبل، أحد الحمارين أخرج منه شيئاً طويلاً أحمر، ودنا من الأخر حتى احتك به وصعد فوق مؤخرته، كان الآخر ينهق نهيقاً عالياً، وكانت عيناه ممتلئتان بالدموع، لقد خفت كثيراً على حمارنا وتناولت حجراً رفعته بصعوبة بالغة وحاولت تصويبه إلى الحمار الآخر، لكن حجري لم يصل والحمار لم يكترث، رفعت فستاني الصغير وعبأته بالحجارة، اقتربت منهما أكثر وبدأت أحصي الحمار الآخر بالحجارة حتى جاء أحدها على ظهره فابتعد وشيئه الطويل مايزال متدلياً وهو ينهق محاولاً الاقتراب مني، فأسقطت من بين أصابعي فستاني وتناثرت بقية الحجارة وقفلت راجعة بكل قوتي صوب منزلنا، وبقيت ألهث والخوف يملأ صدري، وحين أتى صوت أمي منادياً لي كنت أفيق من تأثير مشهدهما وفي عقلي آلاف من الأسئلة التي بقيت عالقة حتى اللحظة!
تقول جارتي: "لديك مهلة لتصحيح ما تبقى من حياتك، وتشدد: لتصحيح..." ثم تصمت وتهز رأسها بألم وتغمض عينيها وعلى وجهها هيئة يأس وحزن شديدين..!
أرد عليها: "ما الذي رأيته في حلمك ليلة البارحة..؟"
تجيبني: "لم يكن حلماً"، وتردف وعيناها لا تزالان مغمضتين: "إنها رؤية..!"
"حسناً لنتفق إنها رؤية، رؤية من لا يرى.." هكذا أجيبها.
تفتح عينيها لتلمعا كبرق يرسل شحناته القوية نحو صدري، فأشعر باهتزازة تيار يعبر دمي!
أقول لها: "ما الذي رأيته في رؤيتك، جارتي العزيزة؟"
تلتزم الصمت وتطرق نحو الأرض موضع حركة قدميها على السيراميك، ينفر السيراميك كدجاجة محدثاً صمتاً ما من أحد قادر على فهمه إلا من يكنز الحكايات القديمة!