من المفترض أنني مت، وأن آخر أنفاسي قد صعد إلى السماء، وأنني لن أستطيع فتح عيني مرة أخرى لرؤية هذا العالم، ولا أعرف أيضاً إن كنت لا أزال أتنفس بانتظام ونبضات قلبي تتسارع في مهامها اليومية.
أنت هنا
قراءة كتاب الحمامة بعباءتها السوداء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

الحمامة بعباءتها السوداء
الصفحة رقم: 5
حين وصلت إلى فناء المنزل الذي سكنته في سنوات عمرها المنقضية، دلفت إلى داخل المنزل، الباب الموارب يكتظ بالداخلين والخارجين...، شيء ما كان يحدث هنا، يمر بكل موتى القرية، غريبة هذه القرية التي تحتضر من ثياب الريف...!
في الصالة رأيت وجوهاً أعرفها ووجوهاً لم تكن قد مرت علي، نساء يتلفحن عباءات سوداء وتلف رؤوسهن أغطية سوداء، حدقت في وجوههن وقرأت بعضها، تلك امرأة مشغولة بالأثاث تسترق أصابعها انشغال النساء الأخريات لتلامس الأريكة التي تجلس عليها، أو تمسح على طلاء الجدار بحنان وفي عينيها حسرة، وثانية تهمس للتي تجلس إلى جوارها عن ابنة خالها التي تزوج عليها زوجها بأخرى، والأخرى تصغي إليها بينما أسنانها تعض شفتها السفلى، وثالثة مرغمة على البقاء بغرض الواجب والعيب، تزمُّ شفتيها وتحركهما يمنة ويسرى وتتأوه كمن يجلس على جمر يشتعل، ورابعة تعبث أصابعها في أنفها وتلقي بما أخرجته منها بعد أن تكوره على الأرض، وخامسة مشغولة مع صديقتها بالهاتف الجوال وتتهامسان وتغتصبان ضحكات مكتومة، وسادسة تشرب قهوتها وتتأمل في أخواتي وبقية من الدموع المتحجرة في أعينهن، ونسوة يتحدثن عن حياتهن اليومية، وأبنائهن، وعن مسلسلات تعرضها القنوات الفضائية، يتكلمن كلاماً عابراً يومياً وعادياً، كنت قد تحدثت به مراراً وفكرت في عبثه طويلاً وما خرجت بشيء غير تفريغ بالون معبأ بالهليوم ويود أن يحلق طويلاً، طويلاً ...! مررت بهن وولجت لحجرتها المغلقة، لم تكن بحاجة لفتح الباب، فالموتى يعبرون حيث يشاءون، يعبرون من أبواب مغلقة لا مفاتيح لها ونوافذ مدفونة في الجدران، يعبرون من الجدار نفسه، أو حتى من السقف إن أرادوا ذلك، لا يطرقون الأبواب الموصدة ولا ينتظرون، كالشمس تفسح الستائر المسدلة يفتحون النوافذ ليتسللوا...!
كانت الحجرة تغص في عتمة شديدة، لم يقترب منها أحد بعد أن غادرتها، ولم تكن بحاجة لإضاءة المصباح، الموتى يبصرن في العتمة، الضوء للعيون التي لا ترى، حجرة يتردى البياض من سقفها لأرضها، بياض يشبه الأكفان الموجودة في القبور، وبياض يشبه ضحكات الأطفال حين نشوة، وبياض كقطع السحاب التي تمر وما من أحد يأبه لمرورها...!
هاهو مكتبها الخشبي المصنوع من خشب السنديان لايزال رابضاً بكامل هيئته، منغمساً في لونه الذي يشبه ماء الذهب، رزمة الأوراق المتزاحمة نائمة في سباتها، تلك الورقة الصفراء المقضومة من نهايتها ملقاة على حافة المكتب في وضعية السقوط غير آبهة بمن رحل وتركها وحيدة، إلى جوارها الحاسوب المصنع من قبل شركة (acer) الحاسوب العتيق الذي مضى عليه أكثر من عشر سنوات ولا تزال تعشق ملامسته رغم ضحكات وسخرية كل من في العائلة، الذين كانوا يطلقون عليه (العجوز). كم تود لو تضحك وتقهقه بصحبة أخواتها وبناتهن، وهي تعيد تشغيل ملفاتها القديمة بنسختها الأصلية، وعلى مقربة منه يستريح ديوان شعر(أوكتافيو باث) -الصادر عن دار أزمنة ترجمة محمد علي اليوسفي- وتتذكر قوله: البشر حجر/الريح تنعطف تلتفّ على ذاتها وتندفن/في نهار الحجارة/لا يوجد ماء لكنّ العيون تلمع... وعلى الحائط يسكن ست وعشرون رفاً محشواً بالكتب التي تنقلت من مختلف العالم لتربض هنا يتيمة وخائفة من أن تكون مهجورة، وما من أعين تحدق بها ولا أصابع تحنو على صفحاتها ولا حتى حضن دافئ يضمها ليشعرها بالأمان في غربتها الطويلة!
كتب جابت بي العالم في حين أن قدمي لم تطأ أرضاً غير قريتي، كتب خلقت لي حياة كنت أريد أن أحياها، كتب ألفت صحبتها والنوم معها على سرير واحد يحضن كلانا الآخر ونعرف أن نميز رائحة بعضنا وننام متعانقين مثل العشاق الأبرياء! كتب لم أفكر أن أحصيها لكنني فقهتها جيداً، أعرف من يدخل منها ومن يخرج ولا يعود، ومن ادفع مبلغاً مالياً لمن أستلفها ولم يعيدها في سبيل أن تعاد..!
وفنجان أبيض تتوسده بقايا من قهوة فرنسية سوداء يابسة يتوسط طاولة صغيرة إلى جوارها مصباح ذو عنق ملتوٍ، ونصف جسد الوسادة يكاد يلامس الأرض، بينما اللحاف الوبري ملقى بإهمال وفوضى أحببتها كثيراً. وعلى الطرف الآخر من الطاولة يتمدد هاتف جوال وعدد الرسائل الالكترونية 13 أو 12 لم أتبين العدد جيداً، حيث كنت مشغولة بغزل عبارة: "الموتى لا يقرؤون الرسائل الالكترونية"!
وهنا أمام هذه النافذة الحزينة وفي زلزال الأفكار الذي يطيح بي حيث كنت واقفة ، بينما السكون يلف القرية، والليل بدأ يحبو بسرعة، والسحب مشرعة حفل نزهتها إذا بأنفي يقتنص رائحة تشبه صدأ الحديد تفوح في المكان، تعقب أنفي الرائحة المواربة من النافذة التي تثرثر ريح الشمال في صدرها، ليل الخريف مليء بالأسرار، أكثر الفصول التي تأتمنه العواصف على أسرارها. فجأة يباغتك المطر، أو تحمل الريح الرمال المعلقة بذيلها، كلما مرت الريح تعلقت بجيوب قميصها حبيبات رمل، أو قطرات ماء... لمَ تعطرت الريح الليلة بهذه الرائحة؟، سأستطلع الأمر، أو ربما ألقت الريح علي بسرها...!