من المفترض أنني مت، وأن آخر أنفاسي قد صعد إلى السماء، وأنني لن أستطيع فتح عيني مرة أخرى لرؤية هذا العالم، ولا أعرف أيضاً إن كنت لا أزال أتنفس بانتظام ونبضات قلبي تتسارع في مهامها اليومية.
أنت هنا
قراءة كتاب الحمامة بعباءتها السوداء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

الحمامة بعباءتها السوداء
الصفحة رقم: 9
أسندت قلبي إلى مرفق كلمات تمتمت بها، كان الهواء يهتز على شفتي وثمة أصوات مكتومة تود العبور، لا شيء هنا يدعو إلى تنزه الحروف كلما أيقنت بحقيقية التخفي في أجفان الفراغ. الريح تصفق على صفيح سقف الحجرة، هي ريح الشمال تهز ردفيها كلما أوغل حنينها للبحر. مددت أصابعي المرتجفة، التي بللها العرق المنضوح من مساماتها. ترنحت أصابعي قليلاً ومسدت على جبين الكلمة، التي بدت مجعدة بعض الشيء. اطمأننت إذ لا حراك بها وغلبني السكون. تراخى جسدي المنهك المبلول بمياه غزيرة وتراءى لساقي انبعاث برودة تتهاوى على أقدامي، ثم ماتلبث أن تتصاعد إلى ساقي الملتفتين كورقتي ملفوف. لبرهة مسحت بعيني ذات القزحية البنية –كثيراً ما كنت أسأل نفسي: "مَن مِن أسلافي كان له لون عيني؟" كلما سألت أمي تجيب: "أن جدتها كانت لها العينان نفسهما ولونهما"– الحجرة شبه متوجسة خيل إلي أن ثمة طيف عبر باتجاه النافذة. "هل ما يزالون هنا؟" هكذا سألت نفسي. ربما كانت ريح الشمال تحرك الأشجار الواقفة بصمود في وجهها أمام النافذة. تناولت تلك الكلمة وهززتها، علَّ شيئاً ما يتناثر منها قلبي يحدثني أن ثمة خطب ما يدفعني لقراءة هذه الكلمات والحروف. لماذا نعيد قراءة حياتنا بينما نحفظ كل تفاصيلها الدقيقة؟ هل أقرؤها له بالترتيب أم أقفز بينها لأعرفه الحقيقة التي تلتحف بدثار التخفي على سرير جبينه؟
إذا بدأت بقراءتها من البداية سيبقى فكره مشغولاً بمعرفة النهاية، وإن قرأت النهاية لن يفهم القصة كاملة. الرغبة تجرفني نحو قراءتها، وقراءتها بتمعن. ما أخشاه هو عودة أصحابها، ومن هم أصحابها، وأنا التي عشتها بدمي وعريتها بأنفاسي الساخنة كالرغيف؟
ليحملوها وأنا لم أتمم قراءتها، ما السر فيما فعلوه الليلة؟ هل أرادوا إخافتي؟ لماذا دسوها في عقارب الساعة؟ هل جننت؟ كيف يمكن تخبئة زمرة كلام بكل هذا الحجم في عقرب ساعة؟ ما الذي يفسر لي هذه الأحداث؟ أكاد أجن؟!
- أنت لم تخترعي تسمية جديدة..! نحن منحناك القدرة على التفكير، لكن على ما يبدو تفكيرك قاصر، لذا سنمدك بالعناوين. هل تريدين منا أن نكتبها لك؟
- اكتبيها...، لها ألا ترون مدى اصفرارها؟ هل أنت لصة الحروف..؟ لا، ربما لصة كلمات..!! لا عليك إنهم مجانين..!!
لم تكن حقيقة متجلية أمامي هذه التي أعيشها، إنها سنابل التخيل، تمضي وهي تساقط أقماع حبوبها الهشة دونما التفاتة مسبقة لوضعية الرؤيا وهمومها الرابحة للضمانات المنتهية الصلاحية. كيف تستحيل حياتك لورقة تكتبها أقدام الأيام من إملاءات القدر؟
حين فرغت من سرد تلك الحكاية، امتخط على الأرض ثم بصق على الورقة التي كنت أهمُّ بقراءتها. لكن لماذا سرد حكاية لا أعرف إذا ما كانت وقعت أو أنني كتبتها ثم فقدتها لأنها لا تمثل أي قيمة في سرد هذه القصة..! ولم أستبين أكان هذا حلماً أم حقيقة، أم خيل إلي في هذا الليل الذي يتلفح بالكحل، وفي هذه العزلة التي تراودني للالتحام بها؟
بقي سؤالي يتأرجح مثل رائحة العرق النتنة كلما مرت بها جزيئات الهواء التصقت بأنفي كي تصيبني بالغثيان. كم أمقت هذه الرائحة التي هي دلالة عميقة عن شخصية المخلوق، من خلال تنشقي لها أعرف نوعية الطعام الذي يتناوله الواقف إلى جواري وكذلك الدواء وكمية الانفعالات وهل هو عصبي المزاج، حار أم بارد الطباع؟
من أين اكتسبت هذه المعرفة؟ هل اكتسبتها من احتكاكي بكل الأشياء من حولي؟ منذ الأزل لم يستخدم جهاز الشم كما ينبغي لدى البشر، مع أن ثمة أنواع من المملكة الحيوانية تعتمد على حاسة الشم كمحرك أساسي لإدارة ترس حياتها.
ويبقى سؤالي الأكثر أهمية أو هكذا أظن: "متى يستخدم الإنسان حاسة الشم؟ وماهي اللحظة التي يمكن أن نخلط فيها جميع وظائف عناصر الإحساس لنشعر بكوننا بشر؟"
العطور، الكريمات، البودرة الروائح التي تضاف لرائحة الجسد أو بالأحرى تنفي رائحة الجسد لتثبت نفسها ما المغزى من وجودها في حياتنا؟ أليس لأننا نريد أن نتحرر من ارتباطاتنا بالآخرين –لا سيما وأن لكل إنسان رائحة تميزه عن غيره، رائحة تعلق في أنوفنا، تزكمها، وتتسيد بكاملها دون مقاسمة مع سواها، تلك الرائحة التي نبغيها، رائحة من نحب- وحين نغطي أجسادنا برائحة أخرى فإننا نريد أن نقنع أجسادنا مثلما أقنعنا عقولنا بشيء مقتفى يدعى المنفى!
فعند خصوماتنا لا نتذكر روائح من نخاصمهم، كيف لنا بتذكرها ونحن لا نفقه منها شيئاً؟ هل ميزنا بين رائحة أخ أو جار أو صديق منحنا قلبه ذات يوم وبين رائحة الكلمات والبارود والدم ونحن نغتاله، أو نخاله يغتالنا؟!
أمضت فترة بعد الظهر تتأمل في العبارات وتحاول الاجتهاد في تفكيكها وتحليل جزئياتها حتى عاودها النعاس، بينما رائحة الكلمات تملأ أنفها اللزج. كانت الكلمة، هي الأكثر قرباً من تفسير الكلمات التي تنهض مبكراً لتقلق منامها، كأنما طائر دوري فزع حط على سلك عامود الإنارة والعاصفة تجمع جدائلها. ما فحوى هذه الكلمات؟ ولماذا كانت هي دون سواها؟
كلمات تبدأ بها وتكتب لها، تقلبها ترفع الحجب عنها، بعضها مؤهل للفهم والبعض غامض كالظلام، بعضها نصله مدبب وحاد يوشك أن يدمي من تقع عليه، وبعضها راحي ومفلطح واضح البيان، يغزو روحك ويستقر بكل دعة وسلام!
كلمات لا توازيها كلمات قالتها لي صديقتي التي أرادت أن أقتسم معها آلامها كقطعة خبز ناشف لا يتكسر إلا حين يبتل بالدموع. هذا ما قالته (ن) في ليلة لقائنا... بعد مضي عدة سنوات من حادثتها المشهودة للعيان!