"صهيل الخندق الأخير.. المسلمون بين حالة المحاكاة والتبعية وبين حالة الإبداع والريادة" للكاتب الإماراتي عبدالعزيز خليل المطوع، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
You are here
قراءة كتاب صهيل الخندق الأخير
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 7
قلوب على حافة الجنون
(النزعة الفردية عند المسلمين، وشكل العمل التعبدي والسلوكي المنعكس عليها)
مئات الآلاف من الحجّاج المسلمين الذين راحوا ضحية الأحداث الكارثية التي وقعت أثناء مواسم الحج، كانوا هم أنفسهم من وضعوا هذه النهاية المأساوية لحياتهم، أو تسببوا في أن يمضوا بقية أعمارهم وهم يحملون بإعاقاتهم ذكريات اللحظات المخيفة والأليمة؛ ومع ذلك، بقيت الجهود الرسمية والشعبية تتحمل إصر هذا النزيف الدامي، باختيارها أيسر الطرق في مهمة البحث عن التبريرات والمسببات، واعتيادها توجيه أصابع الاتهام إلى الاستعدادات وإلى الإمكانيات وإلى ظروف المناخ، أو إلقاء اللائمة على محدودية المكان أو طبيعة الحركة فيه أو حجم الكتلة البشرية أو تناثر الثقافات؛ وكلها تبريرات ومسببات وأعذار تتنصل بها من المسؤولية أو تتبرأ منها بطريقة مكشوفة، أو تحاول الهروب من باطن المشكلة إلى سطحها، أو من أساسها إلى فضائها الخارجي.
1· بين التشنج والخمول
ولأن بوصلة المحاولات التشخيصية والعلاجية أخطأت اختيار اتجاهها الصحيح نحو أصل المشكلة، لهذا كانت الحلول دائما ما تأتي كمالية أو تجهيزية، لا تعالج أصل المشكلة وإنما تعالج أطرافها الخارجية، فما دام الحجيج يتدافعون ويتزاحمون عند رمي الجمرات مثلا، فالحل إذن في زيادة الطاقة الاستيعابية للمكان، وبعدما تُنفَق مئات الملايين على التوسعة، يعيد الحجيج مشهد التدافع مرة أخرى وتتكرر الكارثة أو الأزمة مرة أخرى، وتبدأ الاستعدادات لتوسعة جديدة؛ وهكذا تتواصل فصول المأساة لأن القناعات الحائرة لم تستدل على الحل إلا في تحويل أمكنة المشاعر المقدسة إلى كتل خرسانية قبيحة، لتغدو أمكنة بلا تأثيرها الروحاني النابع من بساطتها وطبيعتها الحقيقية وخصوصيتها الجغرافية؛ والحقيقة أن الحل الواقعي والجذري كان على مرمى حجر، لو أن عُشر معشار ما أُنفق على تشييد الهياكل الكونكريتية وجد طريقه نحو النفسية المسلمة والعقلية المسلمة، إذن لوجد المسلمون أن جذور المشكلة أو الأزمة عميقة ومتشعبة بطريقة شيطانية وعشوائية داخل تلك النفسية، التي تتنازعها:
* إما طاقة مجنونة من التشنج الإيماني والتشدد التطبيقي والتوتر السلوكي والأخلاقي، وهي طاقة معطلة ليس لها حراك أو ناتج إيجابي، لأنها تتوقف عند حد الزهو بالإنجاز الشخصي من الأداء التعبدي، وأكثره موجه للعبادات الشكلية الظاهرية كالملابس والمظهر العام للشخص وللعبادات غير الخفية، ثم تُنصّب هذه الفئة نفسها وصية على الفئة المقصرة وغير المتدينة أو غير المتظاهرة بالتديُّن، وتتشاغل بإحصاء أخطائها السلوكية والفكرية، وتكتفي بغبطة تواجدها خارج تلك المنطقة الموبوءة، وبقياس مدى قرب الفئة الأخرى أو بعدها عن الكفر وربما الجنون·
* أو خمول أبلهٌ من الفتور الإيماني والارتخاء التطبيقي واللامبالاة السلوكية والأخلاقية، وهي أيضا طاقة خاملة ومعطلة، لأن اهتماماتها الدنيوية تفوق اهتماماتها الدينية والأخلاقية والقيمية، وهي تتوقف أيضا عند الغرور بالمكاسب الدنيوية التي حققتها، ومع ذلك فإن هذه الفئة لا تتردد عن تنصيب نفسها مقيّمة للفئة المتدينة، فقط لأنها لا تواكب عصرها في استخدام أدواته ومنتجاته العصرية أو تستخدمها بحذر وارتياب، وأيضا تتشاغل هذه الفئة بإحصاء أخطاء الفئة المتدينة السلوكية والفكرية، وبقياس مدى قرب الفئة الأخرى أو بعدها عن الجنون وربما الكفر·
وكلتا الحالتين تصيب المسلم الذي ينزلق إلى دائرتهما بالعجز عن إدراك ماهية تجديد التزامه الإيماني وترشيده، أو تجعله يتجاهل معنى ضبط حركته الميكانيكية ومشاعره السلوكية أثناء أدائه التعبدي بحيث تتوافق مع معطيات ذلك الالتزام، أو تدفعه إلى تناسي النتائج والثمرات التي مارس العبادة من أجلها؛ وبسبب حالة اللاوعي هذه، يتغافل المسلمون عن إدراك أن فهم الدين واستنباط الحلول منه ليس هدفا نهائيا مطلوبا لذاته، ولكن للتطبيق والممارسة، كما أن التطبيق ليس مطلوبا لذاته، ولكن للحصول على النتائج، ومع ذلك فإن النتائج أيضا ليست مطلوبة لذاتها فقط، بل ابتغاء القبول والمثوبة عند الله.
2· نار بلا حطب
بهذا التصنيف تنحاز الغالبية العظمى من المسلمين إلى أحد جناحي هذا التطرف، وعند نفس الحافّتين أو الهاويتين تتساقط المشاكل وتتأزم المآزق بجميع أشكالها وأحجامها واتجاهاتها، وهذا ناتج عن انخفاض مستوى الثقة أو الاعتمادية على البيانات والمعلومات والحقائق الدينية المخزونة في الذاكرة، فقد تكون ناقصة أو محرفة أو مشوشة أو غامضة أو مغلوطة أو مزورة أو مكذوبة أو ملفقة، وبهذه المدخلات الناقصة أو الخاطئة لا يمكن الحصول إلا على مخرجات سيئة أو غير صالحة للاستخدام، أو مؤدية إلى الخوف من التقصير وتفويت فرصة الاستثمار التعبدي إلى درجة الإصابة بالتوتر، ومن هذا التوتر تتولد العدائية التعبدية، التي تدفع شابا مكتنز البنية أثناء الطواف حول الكعبة، وهو مكان الانقطاع عن الدنيا والخشية والخشوع والخضوع والتذلل والانكسار والرجاء والأمل، إلى أن يتناسى أو يتجاهل كل تلك الأجواء الروحانية، ويفشل في استثمار فرصة التقرب والاعتذار والطلب، ليوجّه كل مشاعره النفسية وتركيزه الذهني ويستغل قوته البدنية في تَخطّي أكتاف الطائفين لدرجة تعمُّد إيذائهم جسديا وربما لفظيا، وهو في هذه الأثناء لا يفكر إلا في الانتهاء من أداء الشعيرة بأي كيفية كانت، ولو لم يذكر الله فيها إلا قليلا، بل ربما دعاه الأمر إذا ما اشتد الزحام إلى وطء المتعثرين أمامه ولو كانوا عجزة أو مرضى أو كبارا في السن·