"صهيل الخندق الأخير.. المسلمون بين حالة المحاكاة والتبعية وبين حالة الإبداع والريادة" للكاتب الإماراتي عبدالعزيز خليل المطوع، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
You are here
قراءة كتاب صهيل الخندق الأخير
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
هذا المسلم يضع نفسه في هذه النتيجة المؤسفة، لأنه يمارس اصطناع الأفعال التعبدية على ظاهرها الحركي، ولكنه لم يتهيأ لهذا الموقف بقوله [: إن الله قال: مَن عادى لي وليًّا، فقد آذَنْتُهُ بالحرب، ··(10)، فلا يبادر بالإيذاء، كما أنه لم يتهيأ له بقوله عليه الصلاة والسلام: من فرَّج عن مسلم كُربة من كُرَب الدنيا، فرَّج الله عنه كُربة من كُرَب الآخرة؛ ومن ستر أخاه المؤمن في الدنيا، ستره الله في الآخرة؛ والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه(11)، فيبادر إلى مد يد العون، ولو تهيأ للموقف نفسيا وأخلاقيا وسلوكيا بمثل هذه التعاليم النبيلة، لأدرك أنه هو ومن يعاني من التعثر والسقوط شركاء في ذلك التعثر والسقوط، لأنه عضو في مجتمع فريد يتقاسم الناس فيه كل شيء، من كسرة الخبز إلى وخزة الألم؛ وأما إذا لم يتهيأ لهذا الموقف علميا أيضا، ولم يتفقه إلى أن كف الأذى أيا كان أعظم قُربة من أي طاعة أيا كانت، فإنه لن يخرج من أجوائه التعبدية إلا بحالة نفسية وإيمانية مهترئة ومثخنة بالثقوب، إلى درجة أن يتفاقم في داخله الشعور العدائي تجاه المسلمين، ثم يستمر في ممارسة بقية مناسكه وعباداته وسلوكياته بنفس النزق، حتى يكاد قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةُ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}(12)، أن يشمله بهذا الوعيد المرعب؛ وفي هذا الجو النفسي المتكهرب لا يمكن لهذه النفسية المتنمرة ذات الجلد التمساحي أن تستشعر ملامسة توجيهات الرسول [ وكلماته الحنونة للصائم: وإِن امرُؤٌ قاتَله أو شاتَمه، فليَقل: إني صائم، إني صائم(13)، ولا أن تؤوب فورا إلى مفاهيم هذه الحديقة الأخلاقية، لتدرك أن نار البغضاء لا تنطفئ إلا بِقَطْع حطب الغيظ والغضب والتوتر عنها.
3· الفجوة الشريرة
هذه الروح العدائية هي ذاتها التي تصدى لها الرسول الكريم [ عندما همّ بعض الصحابة بإيذاء الأعرابي الذي تبوّل في المسجد، لأن رد الفعل الفوري والتلقائي من جهتهم بإزاء المخالفة التي ارتكبها الأعرابي من جهته وعن جهل، كان متولدا من الجهل بالحكم الشرعي، ومن الجهل بالتصرف السلوكي الحضاري والإنساني الملائم، فكان الاحتكام إلى الاعتداء الجسدي نتيجة طبيعية، لحكم مبني على الانطباع النفسي، وليس إلى القواعد الأخلاقية والسلوكية؛ وهي نفس المشاعر العدائية التي عبّر عنها الرسول وهو يتوعد قريشا بالانتقام المدوّي، أمام مشهد عمّه حمزة رضي الله عنه عندما مثّل الكفار بجثته الشريفة في غزوة أُحُد، ولكن التوجيه الرباني لم يمهل هذه المشاعر العدائية طويلا لتعكر صفو هذا القلب الرحيم، وتُشوش صورة الرسول الإنسان، فجاءه الوحي بالعلم أو بالقواعد الأخلاقية والسلوكية التي يجب أن يحتكم إليها عند هذا الموقف المستجد وأمثاله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، ··}، ولكن مهلا فالأمر لم ينته عند توقيع العقوبة، فما يزال هناك ما هو أفضل من العقوبة: {·· وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}(14)؛ إنها نفس التربية ونفس المثاليات السلوكية الإيجابية التي لَفَت المولى عز وجل انتباه نبيّه إليها في موضع آخر من القرآن بقوله: {·· وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، ··}(15)، وهي نفس التربية الإصلاحية البناءة التي امتدح الله المؤمنين الموقنين والملتزمين بها بقوله: {·· والكَاظِمِينَ الغَيْظَ، وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}(16)·
4· العلاقات الانطباعية
عدم العلم أو عدم الفقه أو الجهل بأحكام الدين كانت هي الفجوة الشريرة التي جعلت مسلم اليوم يبني علاقاته مع غيره بما فيهم إخوانه المسلمين بناءً انطباعيا، بمعنى أن العلاقة مع الآخرين تنشأ أو تتقوى أو تنهار إما لعوامل عاطفية أو شعورية أو نفعية، وكلها كما هو واضح عوامل مادية، مع أن المسلم منهيّ عن الانخداع بلمعان تلك الماديات الفاسدة والقصيرة الأجل والملطخة بالاختلاف والتكالب والطمع والمحاباة وقول الزور والحقد والحسد والتكبر والغرور والكراهية والسخرية والبخل والتدابر والقطيعة والتفرق، أو المؤدية إلى مجافاة الأخلاقيات المطرزة بالائتلاف والوئام والقناعة والنزاهة والتناصح والإيثار والتواضع والحِلم والعفو والتسامح والمحبة والاحترام والكرم والتآخي والتآزر، ومن هذا التأزم السلوكي تنضح هذه اللامبالاة عند الاحتكاك بالمسلم الآخر، فإما أن يؤذيه ولو أثناء العبادة، أو أن يهمله لدرجة أن لا يلقي عليه تحية السلام، بينما كان رد الفعل هذا سيأتي مغايرا لو تأكد له أن ذلك الشخص غير مسلم·
5· الفردية
انعدام العلم أو انعدام الفقه عند الفرد المسلم كان أيضا وراء نزعته الفردية للعمل التعبدي أو السلوك الأخلاقي، وهذه الفردية تتناقض مع دعوة الإسلام إلى بناء الروح الجماعية أو تشجيع الأداء الجماعي الذي تحتّمه جميع العبادات في الإسلام مع احتفاظ كل منها بخصوصيتها الفردية، فالصلاة مثلا علاقة فردية بين المسلم وربه، ولكن أداءها في إطار جماعي هو مضاعفة لنتائجها وحصادها؛ ومن ثَمّ كان العمل الجماعي يستدعي الالتزام بالإيقاع الزماني والإيقاع المكاني والإيقاع المعرفي (الفقهي) والإيقاع الحركي والإيقاع السلوكي والإيقاع العاطفي والإيقاع التنظيمي، وإن خلخلة هذا التناغم الإيقاعي عن مثاليته ولو بفعل أفراد قلائل تمسخ العبادة نوعا من الفوضى المتخفية والعبث المتنكر والجهد المجدب(17)، وإذا كانت مدافعة الأخبثين تحول دون قبول صلاة المرء، فكيف وهو يدافع أخباث الناس ونتاناتهم وقذاراتهم وغلظتهم وتوتّراتهم؛ وهذا ينطبق بالضرورة على الصوم والزكاة والحج والجهاد والدعوة والزواج والأضحية والاحتفال بالأعياد، وسائر المظاهر والأشكال التعبدية في الإسلام؛ ولهذا فإن المسلم الذي لا يستشعر أهمية العمل الجماعي ولا يتذوق متعته وثمراته في عباداته وسلوكياته ومعاملاته، فإنه يصاب بضبابية الرؤية وقسوة القلب، ويبدأ في الجنوح نحو الأخطاء والانحرافات، وقد ينمّي في داخله الشعور العدائي تجاه بقية إخوانه المسلمين، وربما تطور هذا الشعور في مراحل متأخرة إلى ممارسةٍ أو اعتداءٍ أو إيذاءٍ مادي أو معنوي ولو لأقرب المقربين أحيانا، وربما بدأ في توسيع رقعة هذه العدائية إلى كل ما هو إسلامي، وبذلك فإنه يستبقي قشرته الإسلامية، ويتملص من جوهره الإيماني القائم على الحب في الله والبغض في الله.