"صهيل الخندق الأخير.. المسلمون بين حالة المحاكاة والتبعية وبين حالة الإبداع والريادة" للكاتب الإماراتي عبدالعزيز خليل المطوع، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
You are here
قراءة كتاب صهيل الخندق الأخير
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
6· بلا حساسية وبلا ذوق
وبسبب الجهل أو عدم العلم أيضا لم يسائل هذا الصنف من المسلمين نفسه ذات يوم، لِمَ قال الرسول [: من أكل ثُوما أو بَصلا فَليَعتزِلنا، أو لِيَعتزِل مسجدَنا، ولْيَقعُد في بيته(18) ولو كان عند آكل الثوم والبصل ومدخن التبغ ذرة من الفقه لأدرك أن مشاعر المسلم وذوقه أشياء مقدسة، وأن الاستخفاف بتلك المشاعر والأذواق خطيئة، ناهيك عن إيذائها، وأن انتزاع المسلم من لحظات خشوعه واندماجه وصفائه الروحي وهو بين يدي الله تبارك وتعالى بتأثير الرائحة الكريهة أو بسبب الحركة الزائدة أو الأصوات الناشزة المؤذية أثناء الصلاة أو بسبب المرور بين يديه أمر ممقوت ومرفوض إلى مستوى التحريم، حتى ولو استدعت مواجهة هذا السلوك المنفر تغييب الفرد المسلم المتسبب في ذلك عن صفوف صلاة الجماعة وحبسه في بيته، ليس عقوبة لهذا الفرد بسبب أكل الطعام أو بسبب نشاطه الحركي المفرط والعنيف وربما المقزز، بل لأمرين آخرين:
الأول، لبَلادته وافتقاده للحساسية الاجتماعية التي تؤهله احترام مشاعر أخيه المسلم بكلّيته، من أدق الأشياء التي تتنافر مع ذوقه ومشاعره وأسلوبه الحياتي كالرائحة والقذارة والمزاحمة، إلى أي فعل آخر من شأنه أن يحرمه من استشعار الأجواء الإيمانية للعبادة وثمارها النفسية والسلوكية؛
والأمر الثاني، لأنانيته التي تستثير أو تستفز عدائيته المفضية إلى حد تعمّد الإيذاء البدني أو العقلي أو المالي أو المعنوي، فكان هذا عقابا معنويا له لإعادة النظر في ذوقه ومشاعره وأسلوبه الحياتي بما يتلاءم مع الحد الأدنى المطلوب.
7· تشوّهات تعبدية وثمار متخشبة
بهذه العيوب العلمية أو الفقهية، وبهذه الانحرافات النفسية، وبهذه الميول الفردية الغبية تبدأ عروق التشقق والتصدع في الانتقال من الأفراد إلى البنيان المرصوص للمجتمع المسلم، لتفكك روابطه وعلائقه، ويتأرجح المسلم على شفير أحد القاعين اللذين يضعفان نزعته الإيمانية، إما في تقليدية التقوقع والتشدد والتطرف في الرؤى، أو في حداثية الانفتاح وانتقائية التمدد والتحرر الانفلاتي لدرجة فقدان الملامح أو مغادرة الدائرة؛ أما جمود التشدد والتطرف فيسلبه القدرة على الخروج من الإطار المتزمت للكيفية التعبدية أو يجعله أسير الإيقاع الحركي الشكلي للعبادة، ولو جاء على حساب التفريط في النفحة الإيمانية والثمرات النفسية والقلبية للعبادة، فيلتفت المسلم إلى القشور الظاهرية من المستحبّات كالمزاحمة في الصلاة أو الطواف أو رمي الجمار، أو تخطي رقاب المصلين للوقوف في الصفوف الأولى للصلاة، والمجافاة بين عضديه أثناء السجود أو الافتراش في جلوس التشهد، ويهمل أو يُعرض عن الواجبات كالتودد إلى أخيه المسلم أو الترفّق به؛ أما انتقائية الانفتاح والتحرر وتجزيء الدين إلى مقبول ومتوائم مع الحداثة أو إلى منبوذ ومرفوض لأنه متضاد معها، فإنها تُخرجه تماما حتى من هوامش الصورة التعبدية، فلا يكاد يستشعر شيئا من الأثر الروحي ولا الدنيوي للعبادة، وعلى هذه الخلفية الجائرة والمتشوهة يبدأ هذا المسلم في التراخي عن تعاليم الإسلام وقيمه وأخلاقياته شيئا فشيئا؛ وما دام البنيان المرصوص متصدعا ومتشققا معنويا وأخلاقيا بهذه النماذج المشوهة من الأعضاء أو العناصر، فلن يجديه نفعا بعد ذلك كل محاولات جعله مرصوصا ولو بالإغراء المادي أو المعنوي أو بالتستر الإعلامي أو بالقرار السياسي أو بالأناشيد الحماسية·
وبهذا الانزياح إلى أيٍّ من أقصى الطرفين، يتيه المسلم في غثائية التفكك والتفرق والتشتت في الحقيقة، وتصنّع التماسك والترابط والتجمع في الظاهر، كما فضح المولى عز وجل جنون هذه العلاقة الهشّة بين المنافقين وأهل الكتاب بقوله: {·· تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}(19)؛ وبذلك تتبدل وظيفة العبادة عند الطرفين وتتغير من كونها محطة استراحة وإعادة شحن بالطاقة الإيمانية، كما وصف الرسول [ الصلاة لبلالٍ رضي الله عنه بقوله: يا بلال، أقم الصلاة، أرِحنا بها(20)، لتصبح الصلاة عند هؤلاء حركات رياضية، ويصبح الصيام حمية غذائية، ويصبح الحج أسفارا وسياحة، وتصبح الزكاة ضريبة على الدخل، وتتحوّر كل العبادات والسلوكيات والأخلاقيات إلى طقوس وتشوّهات تعبدية وعادات اجتماعية وثمار متخشبة·
هذا الجنون، أو هذه النفسية المتأزمة، يجب أن تحاصر على محورين لانتشال المسلم من منزلقات التوتر والعماهة:
المحور الأول داخلي، وهو محور التربية الذاتية والتعلم والتفقه بالجهد وبالدافع الذاتي، ليستحثّ المسلم في نفسيته أثناء أداء العبادات أو السلوكيات أو المعاملات دوافع السكون والاسترخاء وهدوء المشاعر، وليعيد تشغيل مؤشر الضبط الإيقاعي عنده ليمارس هذه الحركة التعبدية، ويتفاعل معها على وجهها الإثماري؛
والمحور الثاني خارجي، وهو محور التأثير التربوي والتعليمي والدعوي وبالحافز المجتمعي، وفيه يبرز دور الرعيل الجديد المنتظر من العلماء والدعاة والمربين القادرين على الغوص والتغلغل داخل التواءات تلك النفسية لتشخيص أوجاعها الكامنة، وتركيب وصْفات إنقاذها من غثائيتها، وترويض طاقاتها الجامحة وتقويم مساراتها المتخبطة، حتى يتفهم المسلم كيف يتحول الالتزام بثوابت الإسلام وتصوراته العظمى إلى سلوك يومي وممارسة حياتية وتراكم خبراتي، ويستوعب متى يجب أن يكون لمتطلبات التجديد التي يفرضها تجدد الحركة وتغيرها داخل ذلك الإطار قيمة، ومتى لا يجب أن يكون كذلك، ويدرك كيف يتعايش مع متغيرات واقعه المحلي والعالمي بيقظة ووعي ووسطية واعتدال، ويعرف كيف يصوغ رؤى غَدِه القادم بحكمة وبصيرة ومعرفة.