رواية "عروس المطر" للكاتبة الكويتية بثينة العيسى الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات عام 2006، نقرأ منها:
·· فقد كبرتُ·
You are here
قراءة كتاب عروس المطر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

عروس المطر
الصفحة رقم: 1
1
عندما فتحت الباب كانت رائحة الشقة تشبه رائحة السردين، على الرغم من أنني وشقيقي، لا نحب السردين ولا نأكله ··
كانت ملابسنا المغسولة حديثًا منشورة على الأرائك، وقد تُركت وحدة التكييف مفتوحة لتساعد في تجفيفها، والبطانية الزرقاء المهترئة مرمية على الأرض مع وسادتين، وعلبة بسكويت صفراء، ورقائق بطاطا شيبس متكسرة، وتل من الأقراص المضغوطة، وكثيرٌ من الأسلاك المتشابكة وقد تكدّس الغبار في الفراغات بينها: غبارٌ اسفنجي تحوّل إلى ندف لفرط ما نسج حضوره حول ذاته ·· كانت شاشة التلفزيون مضاءة وعليها صورة مجمّدة لسيارة سباق تقطع شارعًا··
واضحٌ أن “أسامة” كان هنا··
شمّرتُ عن ساعديّ، أردت - للحظة - أن أرتب الفوضى، أن أقشع الرطوبة عن وجه المكان، والهواء الآسنُ القديم، ورائحة الخلّ ورقائق البطاطا و·· أردتُ ·· أن أغيّر ما ينبغي أن يتغيّر، بدا كل شيءٍ وكأنه يطفرُ من جسده ويعومُ في الفراغ بفوضى، ماهيات تتداخل بميوعة وتتجرأ بعضها على بعض، تذوّب حضورها في كلانية شرهة تغمر المكان، كان ينبغي أن أتدخل! هكذا خيّل إلي·· ولعلي لم أفكّر بالأمر حقيقة، وامتثلتُ لما بدا لي ( أو لم يبدُ ) أمرًا محتومًا، ما حدث ببساطة - في لحظة القرار بعينها - هو أنني أحبطتُ، ربما من ألوان الأثاث، الحمراء بقسوة، ربما من لون ساعديّ، الأصفر بشراهة·· كان كلّ شيءٍ بلا معنى· رميت بجسدي - دفعة واحدة - على الأريكة، تمددت فوق الملابس الباردة، أتنشق رائحة مساحيق الغسيل وأغمض··
أين أسامة الآن؟
إنه - في أحسنِ حالاته - إذا أراد أن يكون ذا فائدة، فإنه يكفّ عن الحضور، يتركُ المكان يئنّ تحت قسرية التداخلُ الهمجيّ بين مفرداته، بين رقائق البطاطا وعلب البسكويت وتلال الأقراص المضغوطة و·· الرائحة، رائحة السردين من أين تجيء؟
·· أنا وحدي، وحدي تمامًا، لا أحد يستطيع تغيير حقيقةٍ كهذه، وحدي ·· مثل خديج عثر عليه في صرّة ملابس، خديج نسيت اللقائق أن تأخذه إلى أم، أو لم ترغب بذلك أصلاً، وحدي، وسط كومة ملابس، ملابس في كلّ مكان، من فوقي ومن تحتي، وعن يميني وعن شمالي·· كم سيستغرقني الأمر لكي ألملم ملامح المكان، وأعيد له وجهه؟
اللقالق لن تمرّ من هنا
·· فقد كبرتُ·
أغطي عينيّ بساعدي، ينبغي أن تكفّ الألوان عن الحضور، والروائح المشبوهة لمساحيق الغسيل الحزينة وعلب السردين ورائحة الخلّ والملح والبطاطا و··
وكأن كلّ شيء يتحرّك في هذا العالم إلا أنا !
ربما ينبغي أن يكفّ العالم عن الحضور، ينبغي أن تضمر ملامح الأشياء، كل هذه الألوان والروائح والمهام التي ينبغي فعلها·· ليتها تنقرض، تنقرض لبعض الوقت، رفقًا بي وبكل العاجزين عن المواكبة، عن الاتساق، العاجزين عن تبرير وجودهم على أدمة العالم مثل بثرةٍ متقيّحة، قليلٌ من الانقراض النبيل، وكثيرٌ من البياض، السطور الفارغة، الإنصات و··
هناك أستطيع أن أفكّر أقل، أغمض أكثر، وأتركُ العالم يرحلُ بدوني ··