المجموعة القصصية "كل شيء على ما يرام" للكاتبة العراقية هدية حسين؛ نقرأ من أجوائها:
You are here
قراءة كتاب كل شيء على ما يرام
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

كل شيء على ما يرام
الصفحة رقم: 3
مذ أخبرني الطبيب الهولندي بأن المرض الخبيث يسري في جسدي قررت العودة، لأجد لي قبراً الى جانب قبور أهلي··· لم أسقط قبل هذا الوقت في فخ الحنين، حتــى أنني لم أحمل معي صوراً حين غادرت بلدي، الصور تذكي جمرات الذكرى، وأنا أريد أن أبدأ حياتي بعيداً عن عذابات الماضي، كنت قد نجحت في إبعاد قلبي وعقلي عن كل ما يجعلني عرضة لموت بطيء، تأقلمت مع الناس الغرباء في البلد الغريب·· وأصبحت فيما بعد أتباهى بكمية المفردات التي أتقنها من لغتهم·· اشتغلت وأحببت·· حلمت بتكوين أسرة كثيرة العدد تعويضاً عن أسرتي التي ماتت تحت أنقاض البيت إبان حرب الخليج الثانية·· ومرت عشر سنوات قضيتها مع زوجي، لكن عددنا ظل اثنين برغم المحاولات المتكررة مع أشهر الأطباء·
لم يكتف الرب بذلك بل أخذ زوجي إلى جواره وتركني أصنع من ذكرياتي زاداً أعتاش عليه فيما بعد·· ومع ذلك لم أقع فريسة الماضي·· كنت أقبل على الحياة بعد كل عثرة بارادة أقوى··· تخللت حياتي صداقات حميمة وأسفار كثيرة··· وكان الوطن يأتي على خاطري مثل حلم جميل لا يقف طويلاً ولا يستوقف·· يمر كما تمر وجوه الناس الذين تجمعهم صحبة طريق ما تلبث ان تنتهي··· هكذا درّبت حواسي وأتقنت لعبة النسيان أو التناسي في زخم سنوات أخرى لم أعد أيامها··· لكن، منذ أخبرني الطبيب الهولندي بحقيقة مرضي، فتحت الذاكرة أبوابها وأزالت الركام رويداً رويداً، فقام الحنين من مثواه وأعلن عن سياط ناره، صارت مقبرة النجف تتراءى لي كما لو أنني تركتها بالأمس يوم دفنت جثث أمي وأبي واختي الصغيرة··· لا أريد لجسدي أن يستقر بين الغرباء·· هذا ما عزمت عليه، وهذا ما حملني الى هنا ·· لا بد أن السائق أخطأ المكان·· غداً صباحاً ، حين ينجلي الليل سأتبيّن الأمر··
سحبت الغطاء على نصف جسدي وأغمضت عيني··· أصوات بساطيل تصعد وتنزل على السلالم·· همهمات وغناء متقطع يعلو وينخفض ·· نمت نوماً قلقاً وعندما سقط ضوء الشمس على وجهي أفزعتني لحظات الصحو، فقد كنت اتعذّب بكابوس مرعب·· رجل يدفعني من قمة جبل ليلقي بي الى أسفل الوادي، وأنا أصرخ لكن أحداً لا يسمعني:
- الحمد لله إنه الصباح·
بساطيل الجنود تنزل السلالم مرة أخرى·· اصواتهم تعلو دون أن التقط أيما مفردة منها·· اسرعتُ الى النافذة فتحتها فهالني ما رأيت·· النافذة تطل على مقبرة شاسعة ليس لها حدود·· قبورها بلا شواهد·· فركت عيني لئلا أكون ما زلت أحلم···
لم أكن أحلم ··· لا أتذكر مقبرة بهذا الحجم··· أيمكن أن يكون قد مات في بغداد وحدها كل هؤلاء خلال الثلاثين عاماً الماضية؟ هذا يعني أن مقبرة النجف - وهي أكبر مقبرة في العالم - قد اتسعت هي الأخرى، وربما امتدت الى البيوت والشوارع ··· يا إلهي ·· أين يمكن أن أجد قبور أهلي؟ وماذا عن أقربائي ·· من يتحمل وزر امرأة جاءت لتموت بينهم···
عدت الى الساحة·· هي الوحيدة التي يمكنني أن أعرف من خلالها موطيء قدمي··· كانت النسوة قد انتشرن في الزوايا·· يقدمن الشاي والقيمر بينما أفواج الجنود ما زالت تتدفق··· عربات للأكل السريع وأكشاك سجائر وأطفال يبيعون العلكة ودراويش يحملون الأدعية المستنسخة ويتوسلون الناس لشرائها··· وجوه··· وجوه··· وجوه··· شاحبة مصفرّة، معصورة، مغبرّة·· ولهجات من كل صنف ولون·
جلست قرب امرأة مسنّة·· شربت الشاي وطلبت (لفّة قيمر)·· لا متّسع من الوقت لأسألها··· أصابعها تعمل بسرعة عجيبة، والجنود يشربون الشاي على عجل·· شاحنة عسكرية تخرج من المدخل رقم (4) يتحلّق حولها الجنود··· تمتليء وتمضي بهم·· الى أين ؟·· لا أدري··· وشاحنة ثانية ·· وثالثة·
حين فرغت المرأة سألتها :
- ما اسم هذا المكان؟
أجابتني بسؤال :
- هل أنت غريبة؟
ترددت ثم أجبت :
- نعم ·