كانت عصاه تهزأ من العمر الثقيل المتكىء على نحافتها وهي تقرع الرصيف البحري قرعاً رتيباً ينتهي باستراحةٍ على المقعد الإسمنتي، لتصبح سنداً لذقنٍ أشيب لمعت فوقه عينان زرقاوان تعلقت في شبكتيهما أعوامهما السبعون.
You are here
قراءة كتاب أزمار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

أزمار
أمـانة الصندوق
استفاق أبو رزق الله على طلق النار وعلى الوظيفة في ليل قلقه وأشارت ساعة المنبّه بجانب فراشه إلى الحادية عشرة، ولم ينتصف ليله بعد إلا على تدرّبه على عدّ السيولة بين أصابعه وراء الصندوق.
- أهذه الأوراق مصيرك ومستقبلك يا عزّام؟
تتدرب على العد السريع بين أناملك فيشهد الزبائن لحرفيتك، بئس العدّ والوظيفة.
أديل الجميلة مسؤولة الحساب الجاري، في معاناة حملها تشتهي اللوز الأخضر ولحسن حظها الموسم ربيعي وفي وقته.
سمعتها ومن غيرك يلبي النداء؟!
الزبائن في بنكنا الريفي يقاتل بعضهم بعضاً، وبالكاد يأتي زبون كل ساعة. أعرني دراجتك يا أبا النور لوقت قصير، وخذي بالك من قفص المال يا أديل.
أبو النور: دراجتي لا يقودها إلا صاحبها وكيف تترك الصندوق دون علم المدير؟
- كلها دقائق وآتي بالغرض، وإن سأل عني المدير فقل ذهب إلى الخلاء.
- لن أعيرك دراجتي.
- إذا فعلتها يا أبا النور فلن أدعك تصطاد «الخوري والشماس» على أغصان توتتنا الشامية.
أبو النور: وصل صاحبك «أبو الميش» كلّفه المهمة.
- أنقذت الموقف يا عزيزي ميشال فلا يحكّ جلدك إلاّ ظفرك وبلا جميلك يا أبا النور.
ميشال الذي يغمزُ الموظفون من قناته لخفةِ سلوكه، باع أبوه بعضاً من أملاكه للشركة صاحبة البنك، وعمل الابن فيها سائقاً طليقاً، أما أنا الذي باع والدي كل املاكه وجدتُ نفسي موظفاً حبيساً داخل صندوقها. عدتُ إلى مكاني مطمئناً ومطمئناً أديل بعودة أبي الميش السريعة، ولأرى قهوة أبي النور تبتسم أمامي عوضاً من طلب الدراجة ولسان حاله موجه إلى أديل ويده إليَّ «لتكن شهوتك مثل هذا الفارس راكبا ً دراجة أبي النور وتقبرين اللوز»!
الوحام لوزة أو بضع لوزات! غصن شجرة أم شجرة بأمها؟ هوذا أبو الميش اقتطعها ويسدُّ باب البنك مقتحمهُ على منظرٍ يضحك له الجميع.
ماذا يحدث في سكون هذا البنك؟ المدير يحتج.
- عفوك سعادة المدير كرم الريف من معجنه ورغيفه مُقمَّر على صاج نظيف.
- وهل نحن في سوق خضار؟ كم أنت ظريف يا عزّام!
كبحنا أظافر أديل لسلامة الجنين جفصَ أبو الميش وعاد الأمر هادئاً وراء مكتب المدير ومستطيل طاولة الحساب الجاري تعكر هدوءه جاروشة شهوة أديل وطحن اللوز تحت أضراسها، ومجيء مدققِ حسابات البنك الخبير سلّوم بنظارتيه وحقيبته السوداء ووريقات خمس، قيمة كل واحدة منها خمسمئة ليرة لبنانية ممهورة بإمضاء المدير بدل أوراقٍ مالية يجب أن تطابق ميزان المدقق.
انتهى الوِحامُ وسلّوم سيدققُ الصندوق همستُ في أذن أديل.
- أعرف وقد رتّبتُ الأمر مع المدير وهو بحاجة إليك اذهب إليه فور خروج سلوُّم من مكتبه. وهكذا فعلت.
- أمرك سعادة المدير؟
- هل لك أحد الأصدقاء أو الأقارب في المهجر.
- أشغلتَ بالي، ما الأمر؟
- لا شيء يا طيب يا عزّام... كل ما في الأمر أن تعطيني اسماً مهاجراً نكشف حسابه في المبلغ الذي ينقصُ صندوقك وهذا على مسؤوليتي أسدّده بعد انتهاء التدقيق ويُقفل الحساب.
وككل شاب مندفع وبدون تفكير قلت: لا عليك سعادة المدير فهناك اسم أخي فهو مهاجر منذ مدة قصيرة وهو لن يعود في القريب، وأنا أوقع عنه. وهكذا كان، فأصبحتْ وريقات الخمسمئة التي أنفق قيمتها سعادته على «قمر الليل»، أو ضحوك، أو دامس أبو الطيب فارس السلام، أو درع الأمير وباقي ركاب الخيل، وما يدخل جيب المدعو أبي حسون مُرجّح فائزي الخيول ومُبتَز جيوب المراهنين، الذي ترك مكتب المدير قبل لحظات من دخول المدقق سلوم. ويكتمل المشهد بدخول إحدى عميلات البنك الأجنبيات على غير عادتها الرشيقة، برجل مجبرّة وعكاز؛ يبدو أنها البلجيكية كارينا هاوية ركوب الخيل وليس سباقها، وقد كبا بها الحصان ما أدى إلى كسر في رجلها دون أن تفقد مرحها، فأخذت تطلب من الموظفين تعليقهم كتابة على جفصينها للذكرى، إلى أن وصلت إليك يا عزّام المنتشي بغرِّ الشباب وبحر خياله لتكتب على أبيض جفصينها وأنت تصبو إلى ما وراء داخله بسرعة الخاطر: «سيدتي الطريق سالكة حتى غابة الأرز». وعندما تتعرف إلى ترجمتها تسابقك ذراعاها بغمرةٍ عامرة وبقبلاتٍ تفعل فعلها وتثير حشرية الموظفين بأكثر من مشهد. غصَّ أبو الميش في اقتحام باب البنك.