كانت عصاه تهزأ من العمر الثقيل المتكىء على نحافتها وهي تقرع الرصيف البحري قرعاً رتيباً ينتهي باستراحةٍ على المقعد الإسمنتي، لتصبح سنداً لذقنٍ أشيب لمعت فوقه عينان زرقاوان تعلقت في شبكتيهما أعوامهما السبعون.
You are here
قراءة كتاب أزمار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

أزمار
شـاطىء الذهب
وظيفة في متجر
عشرة غالونات من الصبغ المائي وعدة الطرش من فراشٍ وورق برداخ ومعجون ومشاحيف.
هكذا خمَّن الدهان أوتشري ما يلزم لإعادة طرش جدران المتجر زائد مئتي «سيدي» –العملة المحلية– بدل أتعابه. سُلِّم نصف كمية الدهان والعدة وسُلِّف على الحساب بعضاً من «السيدات» وبدأ العمل.
- دَع عينك عليه يا نديم هذا ما أوصى به صاحب المتجر مراقب المبيعات.
مستطيل مرتفع يشرف على الزبائن وماكينات النقد يعتليه الزميل نديم، وغرفة المحاسبة مكانك يا عزّام. تقبع فيها لتراجع فواتير المدفوعات والمستحقات، كأنك يا عزّام هربت من سلوم لتصبح سلوم الغربة. تترك مكتبك على صياح الشارع الأسود المكتظ، يهتف: أوي! أوي! على لصٍ قُبض عليه والضرب من كل صوب وعلمت أنه لو أفلح في سرقته لأصبح بطلاً مكرَّماً.
إنه لسيء الحظ. ردّد الزميل نديم وهو يرسل الضحكة وراء الضحكة، مركزاً عينيه على ماكينات النقد في ظرف البلبلة وما يشتت الانتباه.
- تسلَّق المستطيل وارقب معي يا عزّام اكتظاظ الشارع واكتظاظ المتجر يربك الوضع!
وتلك المراهقة الشقراء الألمانية تزداد إلحاحاً في الطلب، تتحسس بجسدها الطري رجلي نديم المتدليتين من على المستطيل وتلقي بكوعي يديها الساندتين وجهها على فخذيه، ولسانها يردد مع سبباتي كفيها: «عنقود عنبٍ واحد لا غير».
- أعطها يا نديم واروِ شهوتها، ونديم يتململ مشيراً إلى الأكياس والميزان وعلى ضحكٍ متزايد.
- خذي عنقوداً وخذيني يا تينا الحلوة إنه أشقر من بلادي تأكلينه، زرعت أمه أيدٍ سمراء لوّحتها الشمس وأعطتها الأرض سخاء فوق سخاء.
لم تكن قفزة تينا وقبلاتها على وجنتيك يا عزّام كقبلاتِ كارينا البنك البالغة الأكيدة. سخاء عنقود من العنب ربما أوصلك إلى ما تشتهيه مع التربية الأوروبية ومع الاحتباس العربي الظاهري. الوجع والفرح وجهان في نفسٍ واحدة والغربة بينهما في تلقّيهما.
بعد غرفة المحاسبة إلى المستطيل وماذا بعد؟ هوذا العتيق من بلادك تتعرف إليه وقد شاخ في أخضر أفريقيا وبقي الخضار في نفسه طري العود.
- من أين أنت؟
- من «أرض البشر».
- لا تمزح يا عزّام فالعم حليم عوّاد على كيفك.
هكذا تدخلّ نديم بينما انشغلت عنهما بالاستماع إلى توم الإنكليزي صاحب مكتب السفريات المحاذي للمتجر في الطابق الأول، وقد شاهد من شبّاكه، وعلى الحافة الإسمنتية من أرضيته، غالوناً فارغاً أول يوم وأصبح على حافة الامتلاء في اليوم الثالث من عمل الدّهان أوتشري.
اصطحبت توم لأرى المشهد، وكان أوتشري ينزل من على سلّمه ويلملم العدة في آخر زاوية من المتجر. انتشلت الغالون من موضعه وأودعته مكتب توم وقد أخذتني نشوة من حقق إنجازاً كبيراً.
العم حليم بقي في انتظاري وأكملت مع جميل مدير التموين الذي تعرفت إليه قبل أسبوعين وحدثني عن نيته بإعطائي منصبه بسبب عودته إلى البلاد لإتمام قرانه والاستقرار هناك. قلّبتُ النظر فلم أرَ أوتشري. سألت نديماً فلم يَرَه. العم حليم غير مبالٍ إلا بمعرفة عملي. قلت له: إنني عوّاد مثلك وقد قدَّم إليّ الأطرش عوده عند سماعه عودي ورزقي على الله.