كانت عصاه تهزأ من العمر الثقيل المتكىء على نحافتها وهي تقرع الرصيف البحري قرعاً رتيباً ينتهي باستراحةٍ على المقعد الإسمنتي، لتصبح سنداً لذقنٍ أشيب لمعت فوقه عينان زرقاوان تعلقت في شبكتيهما أعوامهما السبعون.
You are here
قراءة كتاب أزمار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

أزمار
ستة أشهر وستة أيام
ويمضي ليلك يا أبا رزق الله بطيئاً والعجب في اتقاد الذاكرة كأنها، كلما أطلّت على حدثٍ من الماضي، كمن يرمي حجراً في بركة ماء تتفاعل أمواجه ولا تسكن حتى تلامس الجدران.
فما توقيعك على حسابٍ وهمي باسم أخيك إلا التزوير بعينه. برّرته يا عزّام داخل نفسك شهامةً وكبراً من موروث التقاليد «الحاتمية»، وكان ذلك في غير محلِّه. كان يمضي الشهر في البنك تلو الشهر وعلى عادته أبو «حسوُّن» يزورنا كلَّ أسبوع قبل موعد الشوط بيومين بترجيحاتٍ تتراكم خمسمئاتها في حساب الغائب الوهمي، وكارينا الحلوة بجفصين رجلها أشعرتك بالرجولة نعومةً ورقةً أروَتْ شبقك الجنسي، بلا غرامٍ وانتقام. مرضُ هذا المجتمع القاتل لمدة وجيزة وانتهت يوم أكملتَ ستة أشهر في البنك يا عزّام ويوم بدأت حرب الأيام الستة.
بدأ اليوم الأول من الحرب على تعليمات بصبغ مصابيح السيارات باللون الأزرق.
دراجة أبي النور وطائرات دايان
هي غير تلك التي كانت في الخدمة يوم كان دركياً تحمل في قافورتها زميلاً له. إنها متقاعدة وأقل بكثير من جلالة هارلي داڤيدسون، تكتفي بنقل أبي النور من خدمة البنك إلى المنزل وتبقى مطواعةً تزايد على أيّ سيارة بنقلها أبي النور وأم النور قرينته في تحركاتهما، كما تبقى لها الفرادة في هواية الصيد، التي يعشقها أبو النور، حيث يقودها وبارودته منبسطة أفقياً بموازاة كتفيه كأنها كصاحبها متفلتة من قيود الزمن ومتصالحة مع الريح.
- مهلك يا عزّام لا تفعل هذا.
- أصبغ مصباح دراجتك حسب تعليمات السلامة.
- ما لكَ والسخرية يا عزّام؟
- ألم تسمع مذياع أحمد سعيد وزحف العرب الذي أصبح قاب قوسين من تل أبيب؟
- يعني أن كلُّ شيء انتهى، ولا حرب بعد الآن.
- لا بد من أخذ الحيطة والحذر، ربما أن أحد الطيارين الأعداء والهاربين لم يعد يجد مهبطاً آمناً لمقاتلته وأخذ يضرب الأخضر واليابس، وربما رأى دراجاً في الطريق يكون أنتَ لا سمح الله، قبل انتحاره.
- لن أسامحك إلا إذا تعهدت بتنظيف المصباح.
- سأفعل يا أبا النور سأفعل.
قلتها وتساءلت في داخلي، ما أهون تنظيف وسخ الأشياء وتلميعها عند تلطيخ النفس وإعادة تهذيبها؟
نشوة النصر بهزيمة المحتل أصبحت نكبة الجبهات وهزيمة الهزائم؛ ولعنة فرعون حلّت على صاحبها. شتيت أبناء موسى منذ آلاف السنين هاموا سنيناً في صحرائك يا سيناء وخلصّهم ناموس موسى، وها هم اليوم يبيدون أبناءك يا فرعون حين أصبحوا بلا غطاءٍ تقذفهم حممٌ من سماء ناموس مغترٍ بالقوة والجبروت. لقد أصبح «خط برليڤ» على ضفة القناة يا أرض الكنانة، ويتغطرسون فوق أرض الجولان وعيونهم فوق شامك يا سوريا، وأقدامهم ملأت غزة وشوارع القدس وضفّتها، ولا انتظار إلا بتسلم المسيح وصلبه مرة أخرى!
عفوك أيها القائد! إن صوتك تهدر له الأمواج من المحيط إلى الخليج عروبة... عروبة...
وعند هذا المشهد صوت ضميرٍ صغير لم يسمع لوالده بل حفظ قوله:
«لا تعلّم ابنك الدهر يُعلِّمه». من بدأ بالخطأ ينتهي بالخطأ.
بلادُك سَلِمتْ يا عزّام ولم تشارك في الهزيمة وربما لم يُعِرها القائد اهتماماً لصغرها. أديل الوحام، صغيرة وجميلة عسى أن لا يكون وحامُها على مولود تشتهيه زعيماً بعد هذا الذي دَعَوهُ نكسة. وأنتَ يا حضرة المدير، عيناي ترقبك من وراء الزجاج الذي يفصل بينك وبين موظفيك، ستظل بانتظار «أبي حسون» تقبض ترجيحاته إنما لن تجد عزّاماً يلبيك لأنه قرر السفر بعد أيام على صهوة «درع الأمير» الطائر إلى القارة السمراء.