You are here

قراءة كتاب حياتنا الصغيرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حياتنا الصغيرة

حياتنا الصغيرة

"حياتنا الصغيرة"؛ تمكنت فدى جريس في قصصها القصيرة من التغلغل في الحياة اليومية في قرى الجليل، وعكستها بإمتياز في نص صريح، غير متعال، ومعبر عن النبض الفعلي لما يعيشه الناس. إن هذه القصص القصيرة هي "الثقافة الصغيرة" التي تميز الحياة اليومية.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

طوشة وقايمة

انسل خيط رفيع من الدخان من تحت باب البيت، محدثاً رائحة مألوفة ما لبثت أن انتشرت في أرجاء المكان ووصلت إلى غرفة الجلوس الصغيرة حيث كان مستلقياً أمام التلفزيون. ما كاد أنفه يلتقط الرائحة حتى أجفل وقفز صائحاً: "آمال!!" وحين لم يسمع رداً بدأ يهرول في المنزل باحثاً عن مصدر الرائحة. تفقد جميع الغرف فلم يجد شيئاً. وحينئذ فتح باب البيت ليخرج ويرى، فإذا بالرائحة تدخل كغيمة كثيفة وتعبق بقوة في أنفاسه.
يا إلهي! ما هذا!! خرج خائفاً ينظر حوله وفجأة توقف مبحلقاً.
كومة كبيرة تحترق أمام بيت أبي رمزي، وهو واقف يشرف على العملية ويزيد على الكومة من النفايات والأشياء التي يريد إتلافها. كأنّما قصد أبو رمزي أن يختار هذه الفسحة والوقت بالذات فسرعة الهواء واتجاهه في تلك الليلة كانا يدفعان بالدخان كله مباشرة إلى بيت خليل.
اكفهر وجه الأخير ومرت في ذهنه عدة خواطر منها أن يصيح به، ومنها أن يقيم الحارة ويقعدها ليشهدها على هذا الرجل المجنون، ثم امتد خياله فتصور نفسه يلقي بأبي رمزي في الكومة التي تحترق ويقهقه عالياً وهو يستمع إلى صياحه. شعر بارتياح غريب لهذه الفكرة ما لبث أن قطعه صوت آمال وهي تنادي: "فوت فوت عالبيت خلّينا نسكّر الباب! شو هالحالة هاي!!"
استدار وعاد إلى البيت صامتاً وطبق الباب في عنف، ثم عاود جلوسه أمام التلفزيون.
لقد أُعلنت الحرب.
*********
كانت جيرة أبي رمزي لخليل مضطربة بأحسن تعبير. فمذ سكنا جنباً إلى جنب قبل خمسة عشر عاماً والعلاقات بينهما تتراوح حسب عدة متغيرات منها الحالة الاقتصادية، والانتخابات المحلية (قلما صوّتا لنفس المرشح)، ومشاكل النسوة (وهذا بند هام يستحق الوقوف عنده مطوّلاً)، والخلاف الدائم على حدود الأرض بينهما، وعدة ثوابت منها عصبية أبي رمزي المفرطة، وتحشّر خليل فيما لا يعنيه، وكيد وكره زوجتيهما الواحدة للأخرى. أصبح أمرهما شائعاً حتى بات الناس يستغربون حين يرون أحدهما يحدث الآخر أو يزوره.
اندلع الخصام ثانية قبل أسبوعين بسبب تخلّف أم رمزي عن تنظيف سلة المهملات الكبيرة المشتركة بين العائلتين. وكانت قد تخلفت عن دورها لثلاثة أسابيع متتالية فوقفت آمال لها بجانب السور المنخفض الفاصل بين بيتيهما، واضعة يديها على خاصرتيها قائلة بنبرة فيها الكثير من التهكم: "بهمّش جارتنا... بدنا نغلّبك... إذا بتعملي معروف صار لك تلات جمع مش شاطفة سلة الزبالة..." فسارعت الأخرى بالرد: "لأني ما باوسّخها قدّكم." فقالت آمال بغيظ: "إحنا بنرمي فيها زبالة وانتوا بترموا زبالة – والا زبالتكم أنظف يا عيني؟!" فردت الأخرى أن الناس مقامات، وهناك أناس من بيئة معينة لا يعرفون حتى كيفية ربط أكياس المهملات حتى لا تحدث أوساخاً. استطردت آمال بأن مقامها أعلى من أم رمزي وكافة سلالتها، فنعتتها الأخرى بقليلة الأدب وانهالت عليها بالسباب والشتائم. حين عاد الزوجان إلى البيت لكّمتهما كل واحدة القصة من وجهة نظرها، فتأفف الرجلان اللذان بالكاد استراحا من آخر "طوشة" قبل أسبوعين. هدر خليل محذراً: "حكي كثير بدّيش أسمع – ما عدش إلي اخلاق اتقاتل مع حدا – اكسري الشر وفكّيني من دواوين النسوان هاي!" بينما صاح أبو رمزي بزوجته أن تنظف السلة و "تحلّ عن سماه".
يئست المرأتان من الرجلين فقررتا خوض المعركة منفردتين. تلا تلك الحادثة إلقاء بقايا طعام فاسد أمام بيت أبي رمزي ورمي مياه جردل المسح المتسخة على غسيل آمال، واختفاء غامض لدجاجتين من بيت أبي رمزي ثم اختفاء الديك أيضاً، وتقطيع حبال غسيل آمال المربوطة بزاوية بيت أبي رمزي (ويبدو أن لأم رمزي حقداً خاصاً على غسيل الأخرى). وسط الصياح والقتال والشتائم أُقحم الرجلان – رغم أنفهما – في القصة. قال أبو رمزي لخليل بأن عليه أن "يضبّ" زوجته ولم يحتمل الآخر فذهب واشترى سلة مهملات منفصلة لبيته ثم كسر سلة المهملات الأخرى حتى يلقن جاره درساً في الأدب، فنتج عن ذلك أن جمع أبو رمزي كل نفاياته وأحرقها في حادثة اليوم، ناشراً رائحة خانقة في بيت خليل لم ينم هو وعائلته بسببها تلك الليلة. قام في الصباح أحمر العينين يتميز غضباً ويهدر لنفسه. حين رأته زوجته على تلك الحالة علمت أنه من الأفضل عدم استفزازه إلى أنْ خرج من البيت صافقاً الباب وراءه في عنف، متجهاً إلى بيت المختار حيث قدم شكوى عالية ضد جاره وتشاجر مع نصف الذين رآهم في الطريق ذهاباً وإياباً. وعاد إلى بيته كي يفكر بطريقة تجعل هذه العائلة تتقي شره إلى الأبد!
*********
رشف أبو سعيد رشفة ساخنة من قهوته، متلذذاً بها وبقطعة حلوى سارع بالتهامها ليلحقها بأخرى من طبق موضوع أمامه. ثم فطن إلى الموضوع الذي جاء من أجله فاعتدل في مجلسه، مركزاً جسمه الضخم في وضعية مريحة، وتنحنح قائلاً: "يا أوادم... مسّيناكم بالخير..." فهمهم الجميع رادّين التحية، وكان في الحضور كلٌّ من أبي رمزي وخليل وجيرانهم الثلاثة، وسعيد الذي بدأ يتعلم الصنعة من أبيه مؤخراً. استطرد هذا: "أنا اليوم جاي مع الأوادم هذول..." وقاطعه الجيران قائلين: "الله يخليك!" ثم أكمل: "... حتى نوفق الأمور بين الجيران... والجار قبل الدار... واحنا بدنا نصلح الحال ونعيد الأمور لمجاريها..." وهنا بدت على وجهه سحابة من الكدر، وكأنه تذكر أن مجاري الأمور بين هذين الاثنين تكمن في العراك والمشاكل وأنّه لا بد سيأتي مرات كثيرة أخرى ويجلس هنا نفس الجلسة ويقول نفس الكلام... وهو يود أنْ يكسر رأس هذا وذاك ويرتاح منهما. ولكن، لا بأس، إنّه ينعم بعشاء لذيذ كلما أتى وما يعقبه من تضييفات، فتشريف المختار لا يمر ببساطة وله طقوس لا بد من تأديتها.
تنهد في شبع وارتياح وأخذ قطعة حلوى أخرى يتلذذ بها على مهل (شعاره المفضّل في الحياة: "الشبعان بوكل مية لقمة"). بعد أن أعطى الجالسين هذه الفرصة لاستيعاب جملته الأولى أردف: "يا أبو رمزي وخليل... إنتوا جيران وعيب عليكم كل يوم والتاني تبهدلوا حالكم هيك. يا أخي خلّصونا من قصصكم هاي وتصالحوا عاد!" وهنا دب الحماس في الجيران الثلاثة فسارعوا إلى التأكيد على كلمات المختار وحث الجارَين على الصلح، مستشهدين بأمثال وعبر وأقوال حكيمة.
تبادل أبو رمزي وخليل النظرات وهما محمرا الوجهين تنتابهما مشاعر الغضب ويحاولان جاهدين السيطرة عليها. تحت الضغط المستمر قام كل منهما بالاعتذار للآخر، ثم هدأت النفوس وهدآ تدريجياً شاعرين بالخجل مما قد حدث – وفكّر كل منهما بأنه يجب أن يجد حلاً لهذا الوضع، فلا يعقل أن يبقيا هكذا. ارتاح الجميع وانبسطت أساريرهم وتلت ذلك سهرة لطيفة ممتعة أتى خلالها المختار على بقية طبق الحلوى وصحن من الفاكهة ونصف كيلو من البذورات، إضافة إلى الشاي الذي تم تقديمه فيما بعد.
في تلك اللحظة، كانت أم رمزي قد فرغت لتوها من رش علبة من السكر أمام باب بيت خليل، وابتدأ هجوم ليلي على إثر ذلك للنمل والصراصير وسائر الحشرات التي أتت مهرولة، غير عابئة باتفاقيات السلام الطازجة التي لم يطلع عليها النهار.

Pages