كتاب " الثورة سردية وطنية " ، تأليف فؤاد خليل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب الثورة سردية وطنية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الثورة سردية وطنية
المحور الأول :في الميدان الطائفي
1 ـ الوحدة الوطنية لا يصنعها أهل الطاعة(*)
انبرى رهط واسع من مثقفينا وسياسيينا يتحدث بزهو، عن أن الوحدة الوطنية تحققت في 14 آذار «بأبهى صور لها». وكان صريح حديثه يرى أن اجتماع الطوائف اللبنانية في ساحة الشهداء، جعل هذا اليوم حدثاً وطنياً غير مسبوق، وعلى قدرة فائقة على جَبّ ما قبله والتأسيس لما بعده. وفي الحال، أخذ حديث الوحدة الوطنية يتحول إلى طقس يومي يرتله ذاك الرهط دون كلل، كأنه تلبس وظيفة الكهانة في وعظ وإرشاد من يأتم به أو يأخذ بفتواه أو يتبع له. لكن الكهانة هنا، أظهرت عجزاً بائساً رغم أنها امتلكت المساحة الأوسع من مجتمع الصوت والصورة، ذلك أن حديث أهلها كان درساً مكروراً من وعي شقي يعود إلى خطاب أيديولوجي ما فتئ منذ الاستقلال يرى أن الوحدة الوطنية تقوم على حساب جمع الطوائف أولاً وأخيراً. وهذا ما وجد أصداءه في منبر 14 آذار حين افتتن متحدثوه بتجاور الهلال مع الصليب، واكتشفوا أن الطوائف تتشابه في مركبها الفيزيقي، وأن ثمة فرصة مؤاتية لأن تتلاقى على مركب كيميائي مشترك!. غير أن افتتان هؤلاء بالفولكلور الشكلي، حجب عن وعيهم معرفة ما إذا كانت معادلة طائفة زائد طائفة تنتج وحدة وطنية أم طائفتين في حالة تجاور كياني. أو بتعبير آخر، لقد حجب عن وعيهم أن معادلة الجمع الطائفي سواء ضمت طائفتين أو أكثر لا تحيل إلى الصدق الواقعي أو تقترب منه، وهو هنا، حقيقة الوحدة الوطنية بوصفها النقيض لأي حساب طائفي لم ينجز الوحدة يوماً إلا لفظاً في تاريخه العريق... لا ريب أن 14 آذار حشد في حدَثيَته أقساماً كبيرة من السنة والدروز والمسيحيين، مع قسم محدود من الطائفة الشيعية. وجاءت الأقسام متنوعة من حيث منطقها وفئاتها المجتمعية. ومن بين هذه الفئات، شكل الشباب الكتلة الأوسع للحشد في ذاك اليوم. وكان الغالب الأعم من كتلهم يتوزع على أحزاب وتيارات وقوى طائفية، أي إنه كان يمثّل التغذية العضوية الرئيسة لفعل التحشيد والتجمهر. وما بقي من تلك الكتلة وهو على الأرجح فئة قليلة، شارك في الحدث المسمى «انتفاضة الاستقلال»، من خارج الانتظام الطائفي وهو يظن أو يتصور أو يحلم بوحدة وطنية تؤسس لتحرير لبنان من كل وصاية خارجية حتى تتحول شعارات الحرية والسيادة والاستقلال إلى حقائق واقعية. لكن المجرى اللاحق للحدث قطع الطريق على الحلم المنشود وهمش فعل الحالمين وتأثيرهم، ثم أظهر بالملموس أن من احتشد في 14 آذار، صنع جمعه الخاص للموازنة مع جمع خاص آخر احتشد في 8 آذار في ساحة رياض الصلح. فكانت الصناعة بالتالي جمعاً إلى جمع طائفي، لا وحدة وطنية جامعة.. لقد ترافدت الطوائف إلى ساحة الشهداء كذوات جمعية شبه مستقلة. وحينما تلاقت، توزعت في المكان على هيئة تجاورية، بحيث ظهرت كل ذات تشغل قسماً منه أو تتحرك في حيز مخصوص لها. ولذلك بقي المشهد موزعاً على روافد متوازية في جانب ومتقابلة في آخر، أي ان المشهد لم ينتج الكل ذا الطبيعة المختلفة عن روافده أو عناصره المكونة للجمع المحتشد. ومن دون هذا الكل، لا تعود الوحدة الوطنية تجد أساس قيامها أو تحققها. وكل حديث يدعو إلى الوحدة، وهو يتجاهل أو يجانب هذه الحقيقة، يقع في باب الخطاب الحماسي أو التعبوي. ويوم 14 آذار الذي أوصل مسار التعبئة إلى درجته القصوى، شهد على نفسه بنفسه، إذ بعد أن ظن خطباؤه أنهم أمام أروع وحدة في تاريخ لبنان، جاء الواقع ليكشف لهم بدءاً من صبيحة اليوم التالي، أن جمع «الانتفاضة» تفرّق وبحماسة شبيهة بالأولى، أيدي سبأ على ربوع طوائفه ومضاربها. ما يدل على أن الحماسة الوجدانية قد تفلح مؤقتاً في حشد الطوائف من كل حدب وصوب، لكنها في الوقت نفسه، برهنت أن الوحدة الوطنية لا تُبنى من روافد طائفية لا تستطيع إلا أن تتجاور في مكان حشدها بالذات، حتى وهي في أعلى درجات وتيرتها الانفعالية...
ثم جاءت الانتخابات النيابية تثبت بدورها أن الطوائف حفرت خنادقها المتقابلة سواء في فعل ائتلافها أم في فعل تصويتها. فكانت حركة الخندقة نقضاً للشعار الذي طرحته والداعي إلى الوحدة الوطنية، أو بمعنى ما، انتفاضة مضادة عليه.. كما كانت طوق خناق للسياسة بوصفها خطاباً في المواطنة، وبخاصة بعد أن ظفرت كل طائفة بزعيمها الأول أو الأوحد لها. ومع أحادية المرجعية، ظهر أبناء الطائفة على فئتين رئيستيْن: فئة كثيرة، تتشكل من المريدين والأتباع «البررة» وهؤلاء هم أهل الطاعة أو الموالي، يوالون بالأجر أو بالغريزة أو بالمنفعة. وفئة قليلة، تتكون من المعترضين والمحتجين الناقمين. وهؤلاء هم أهل الرفض أو الخوارج، يخرجون على المرجعية إما بالقطع أو النقد أو الخصام لتركيب بديل عنها أو أكثر... أما من يخرجون من انتمائهم الطائفي إلى آخر مغاير، فأولئك في نظر الطائفة أو أكثريتها هراطقة ضالون لا حمى لهم لديها أو حماية.
وهكذا، عندما تتفرق كل طائفة على هذه الصورة، لا يعود جمع الطوائف أو حشدها في يوم من هنا وآخر من هناك، يملك أن ينتج وحدة وطنية، والمرجعيات الطائفية تعمل على توليد أكثرية في الطائفة، لتكون من أهل الطاعة أو الموالي المخلصين.
وعليه، فالوحدة الوطنية لا تصنعها قوى طائفية سواء من الموالي أو الخوارج، كما تريد لها مرجعياتها العامة أن تكون، بل تصنعها قوى غير طائفية تتسلح بخطاب مدني تقوم مرجعيته الفكرية والسياسية على الانتماءات الحداثية حتى تتعزز شروط بناء النحن المجتمعية أو الكل المجتمعي، الأساس الوجودي لكل فعل توحيدي، ثم من أجل أن تشكل تلك القوى مركزاً توحيدياً أو كتلة مهيمنة تعبّر عن وحدة مصلحية لا طائفية. أو بمعنى آخر، كي تتحول إلى أكثرية سياسية متجانسة تمارس غلبتها على قواعد ديمقراطية ووطنية جامعة، لئلا تبقى الأكثرية الطائفية مصدراً دائماً للخوف الأقلوي وتالياً لاختلال التوازن الوطني.
في الأسابيع الأخيرة، برعت الأكثريات الطائفية في خنق الديمقراطية على حدود خنادقها العصبية أو خطوط انقسامها الأهلي. وإلى جانب ذلك، برعت في افتراس المكان كمجال عمومي بعد أن حولته إلى رقعة فسيفساء متنافرة رغم تجاور أجزائها، وكأن الطوائف هنا، تريد أن تكون علاقتها بهذا المجال صورة رمزية دالة على علاقتها بالدولة والوطن، إذ مثلما تفترس المجال العمومي، تعتقل الدولة وتقهر زمنها الخاص، وتحجز الوطن ثم تأسره وهي سعيدة، في مزهرية لا ماء فيها. إن الدولة في لبنان، سوف تظل مكتومة مع إدامة القيد الطائفي. أما الوطن فسيبقى هو الآخر مكتوباً في سجلات هذا القيد بقلم من رصاص...