كتاب " الثورة سردية وطنية " ، تأليف فؤاد خليل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب الثورة سردية وطنية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الثورة سردية وطنية
ب ـ الدروز: بين المشيخة والقيادة الوطنية(******)...
ارتبط تكوين الدروز السياسي بطبيعة الدور الذي لعبته تشكيلاتهم العصبية منذ تاريخ قدومها إلى جبل لبنان. ففي مرحلة أولى من ذاك التاريخ، شغل قسم من تلك التشكيلات في ظل الإمارة التنوخية، موقع الثغر العربي المتقدم على الساحل اللبناني لأجل قتال الفرنجة والذود عن العمق الداخلي للدولة العربية الإسلامية.
وفي مرحلة لاحقة، ظفر قسم آخر منها بحكم الجبل أي بحكم إمارته بعد سيطرة العثمانيين على بلاد الشام في أعقاب معركة مرج دابق سنة 1516... ومن خلال نظام الإمارة وبخاصة في عهدها العثماني ترسخت سلطة الدروز السياسية، وتوسّعت دائرتها في بعض الفترات إلى أبعد ما رُسم للإمارة من حدود جغرافية معلومة. ولقد ارتكزت تلك السلطة في مجالها الداخلي على تراتبية مجتمعية صلبة وقف الدروز على رأس هرميتها. فبات هؤلاء أسياد الجبل طوال ما يقارب القرنين من الزمن.
لكن مع تبدل الأحوال والظروف، بدءاً من الربع الأخير للقرن الثامن عشر، أخذ النظام المراتبي يتعرض لاختلال على صعيد موازين القوى في داخل تركيبته العامة. وكان المظهر الأبرز لذاك الاختلال، يجد ترجمته في نهج التضييق الذي طفق الأمير الشهابي يتّبعه على سلطة الدروز التقليدية، أو في مسار تطويق دور العائلات السياسية الدرزية وفي مقدمها عائلة جنبلاط. ثم وصل هذا المسار إلى ذروته فيما عرف بصراع البشيرين، الأمير بشير الشهابي والشيخ بشير جنبلاط...
أما مآل الصراع المتمثل في ضرب المرجعية الأولى للدروز وحلّ ثنائية السلطة في الإمارة؛ فقد أفصح عن محطة فاصلة في قلب المعادلات التاريخية في الجبل لمصلحة أخرى تقوم على قواعد وتوازنات جديدة. إذ ذاك أصيب دور الدروز السلطوي بانتكاسة خطيرة ودخل في منحى تراجعي مديد. وفي المقابل تفرّد الأمير الشهابي بسلطة الإمارة، وجاء تفرّده يعبّر بشكل أو بآخر عن صعود الموارنة السياسي والاقتصادي وعن تقدمهم الحثيث للظفر بالموقع السلطوي الأول في الجبل. وبذلك، يكون مقتل الشيخ الجنبلاطي قد شكّل النهاية الواقعية لعهد الإمارة، وفتح الباب على عهد جديد هو المتصرفية. فكان الأخير قياساً على ما سبق بمثابة إمارة «مدوّلة» أمّنت الشروط المؤاتية لسيادة الموارنة عليها. وبالفعل تابع هؤلاء في زمن المتصرفية صعودهم السياسي وبناء سلطتهم في أطر مؤسسية مكنتهم من أن يحوزوا موقع الأولية بين الطوائف الأخرى، بينما كان الدروز يتابعون تراجعهم على الصعيد السياسي رغم انتصارهم العسكري في أحداث 1858ـ1860. وهو ما أسّس لمعادلة تاريخية فرضت أحكامها بقسوة عليهم وهي: إن النظام المتصرفي، أو بتعبير آخر، إن النظام الطائفي عموماً حوّل الدروز إلى ضرورة كيانية لقيامه. لكنه في الوقت نفسه أسر نصابهم التمثيلي بحجم أقل بكثير مما يكون عليه في زمن الحرب. ولقد حمل هذا التناقض إلى الدروز، القلق المبكر من نظام سلب منهم السيادة على الجبل وافتأت على حجمهم السياسي. ثم رسم لهم في بنيته مرتبة مقفلة لا سبيل إلى تخطي حدودها الطائفية.
وهكذا يكون النظام المتصرفي قد بلور زمنين متفارقين: الأول هو زمن الصعود «الطوباوي» بالنسبة إلى الموارنة، والثاني هو زمن الانكسار في موازين القوى لغير مصلحة الدروز. وجراء ذلك، دخل هؤلاء في حالة من الاستكانة الواقعية «لدهر طويل» شمل المتصرفية وامتد إلى الانتداب، وراحوا يأملون بمرجعية تبني لهم حجمهم السياسي الحقيقي، أي بمرجعية تحاكي موقع بشير جنبلاط وتُعيد صوغه في زمن مغاير....
انقضى «دهر الاستكانة» حالما دخل كمال جنبلاط في أربعينيات القرن العشرين المعترك السياسي. لقد وقف «البيك»، الجنبلاطي على حقائق تاريخ الإمارة وأفاد من دروس مرحلة المتصرفية فأدرك منذ البداية طبيعة موقعه في تركيبة النظام الطائفي، بوصفه موقع الضرورة الكيانية الذي يشكل لازمة لقيام هذا النظام ولقواعد اشتغاله العامة. كما أدرك في الوقت عينه، أن تلك الضرورة المعبّر عنها بالتمثيل الطائفي، هي قيد ثقيل على حجم الدروز السياسي؛ بحيث جعل علاقة كمال جنبلاط بالنظام الطائفي تقوم على معادلة قلقة وغير مستقرة. فالنظام كان يعتبر أن الزعيم الجنبلاطي يؤلف جزءاً عضوياً منه. لكن الأخير كان يؤلف من جهته، الجزء الأكثر دينامية وأهلية للخروج عليه.
وبالفعل، أعد جنبلاط العدة للتفلّت من أحكام الضرورة الكيانية ـ الطائفية من أجل بناء ضرورة وطنية تتجاوز قواعد التمثيل الطائفي وقوالبه الضاغطة. فكان تأسيس الحزب الاشتراكي يعبّر بمعنى ما، عن وضع البناء ذاك موضع التطبيق العملي. وبتعبير ذي دلالة رمزية، لقد ضاق «البيك» ذرعاً بالكيانية. فاختار أن يكون الرفيق في رحاب الوطنية.
ومع هذا التحول النوعي، لم يعد النظام الطائفي يملك القدرة على حجز المرجعية الجنبلاطية في نطاق معادلاته الكيانية الضيقة. إذ في الوقت الذي كان فيه كمال جنبلاط يمثل الدروز طائفياً في النظام، كان فيه أيضاً يرفض طبيعة النظام الطائفية ويدعو إلى تجاوزها. ثم يعمل على توسيع دائرته المرجعية من خارج انتظامات الطوائف السياسية والأيديولوجية. وتبعاً لذلك، يكون الزعيم الجنبلاطي قد انتقل من ضرورة كيانية تصنف الدروز كحجم أقلوي وسياسي محدود؛ إلى ضرورة وطنية تصنع لهم حجماً مفتوحاً على مساحة الوطن. أو بمعنى آخر، يكون قد تجاوز التناقض بين الكيانية والوطنية، ووجد أن الدولة الطائفية ليست دولة له أو لمن يمثل، وأن موقعه الحقيقي لا يقوم إلا بنظام غير طائفي أو بدولة لا تكون ملكاً لفئة دون أخرى...
من هنا وضع جنبلاط من خلال زعامته للحركة الوطنية، حداً نهائياً للمعادلة القلقة التي عاشها في تجربته مع النظام الطائفي. وقدّم صورة نموذجية عن مجتمع سياسي لا يقوم على معادلات وتوازنات طائفية. ثم رأى تالياً في ضوء البرنامج المرحلي أي في ضوء دعوته إلى تجاوز الطائفية السياسية وإلى عروبة لبنان، أن النظام السياسي المأمول، هونظام ديموقراطي يضمن له حقيقة واقعه التمثيلي من حيث كونه مرجعية وطنية ذات أبعاد عربية وإنسانية في آن...
وعندما اندلعت الحرب الأهلية، ورفضت قوى الهيمنة على النظام الطائفي البرنامج المرحلي، خاض كمال جنبلاط حرب الجبل وحلم بحسم عسكري لكسر موازين القوى التي نشأت في زمن المتصرفية وتكرست في النظام الطائفي في مرحلة الانتداب وفي الجمهورية الأولى، وذلك من أجل إرساء موازين مغايرة تؤمن ولادة نظام سياسي جديد. لكن الدخول السوري إلى الجبل كسر الحلم الجنبلاطي. ثم انحاز إلى الضرورة الكيانية للنظام ودعمها بكل قوة ولم يعر اهتمامه لأي مشروع بديل عنها.