كتاب " العرب خارج عروبتهم " ، تأليف طلال سلمان ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
قراءة كتاب العرب خارج عروبتهم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
هذا فضلاً عن أن نظام بن علي قد سقط بسرعة قياسية وقبل أن تتفكك المؤسسات أو تنهار، وظل الجيش حارساً للانتظام العام، وهكذا بقيت «الدولة» حاضرة، وأمكن إنجاز انتخابات النظام الجديد بالحرس القديم ذاته مع تبديل في «الرؤوس» مشفوعاً بتعهدات صارمة بأن تبقى تونس ما كانته، وأن تستمر «السياحة» المصدر الأول والأهم للدخل القومي برضا أهل الشرع والقيمين على الدين الحنيف، وقد غدوا الآن في مركز القرار.
بالمقابل فإن محاولة استنقاذ «النظام» بإسقاط رأسه قد تكررت في مصر، فتمت إزاحة حسني مبارك، بأقل الخسائر الممكنة، ثم فتح الباب أمام استنزاف «الميدان» بمسلسل من التدابير الهادفة إلى إرجاء «القرار» في انتظار أن تستعد القوى المؤهلة لقيادة المرحلة الانتقالية... لخوض الانتخابات!
أثيرت قضايا شائكة بغير حصر، وطال الجدل حول دور الجيش وعلاقة الجيش بالميدان، والدستور وهل يكون اولاً أو تسبقه انتخابات مجلس الشعب والشورى وانتخابات الرئاسة، بل إن الدستور ذاته صار موضع حوار طرشان. وتاهت الحكومات البلا صلاحيات في غمار الجدل. أسقط رأس الأولى وجيء برأس مستعار، ثم بثالث مستعاد من الماضي.
في هذه الأثناء، وبرعاية واضحة من الجيش، كان «الميدان» ينقسم: «ميدان الإيمان» ممثلاً بالإخوان المسلمين وعلى يمينهم السلفيون و«ميدان الآخرين» الذين يصعب توحيدهم على برنامج لسلطة ما تزال «ممسوكة» ممن لا يرغبون بتسليمها إلى من لا يعرفون أو - بالتحديد - إلى من لا يثقون بقدراتهم فضلاً عن توجهاتهم المتناقضة، سياسياً وفكرياً واجتماعياً.
هكذا، وببساطة، انتقل الجيش من موقع البديل المؤقت والحكم في انتظار كلمة الشعب حول النظام الذي يريد إلى مقرر في شأن «خليفته» في قيادة البلاد، وبالتالي إلى قوة دعم علنية لتيار بالذات، كان يعرف أنه الوحيد المؤهل لجني ثمار الانتخابات، لأنه ينفرد بعراقة وجوده ثم أنه منظم جيداً وصاحب الخبرة الطويلة سياسياً وكل ذلك بين الكفاءات التي مكنته من الاستمرار على قيد الحياة، برغم الحروب المنظمة ضده، على اختلاف العهود.
أما في ليبيا، حيث كانت «الكتائب المسلحة» هي جيش السلطان وأولاده، فقد تعذر استخدام الجيش كقيادة عبور إلى التغيير، تحمي «النظام» بخلع رأسه لتبرر دوامه... وهكذا كان لا بد من حل بديل يستنقذ الانتفاضة الشعبية المهددة من داخلها بقدر ما هي موضع هجوم صاعق بالنار من خارجها، كاد يصل إلى منطلقها في بنغازي قبل أن توحد صفوفها.
وحين تورطت الانتفاضة في لعبة الاستعراض العسكري كان طبيعياً أن تتفجر مسألة القيادة ولمن تكون: لطلائع الثوار من أهل البيضاء وفيهم البراعصة الذين لهم ثأر قديم على ثورة القذافي لأنه اسقط سلطتهم (الملك إدريس) ام لبنغازي عاصمة الشرق؟.
كان لا بد من إنقاذ سريع لا يتوفر في الداخل، ولا في المحيط... وهكذا تبرعت جامعة الدول العربية بالفتوى، فكان اللجوء إلى مجلس الأمن، ولكل من دوله «ثأر بايت» على القذافي، وكان تفويض الحلف الأطلسي بأن ينجز المهمة، ولا يهم أن تصل أعداد الضحايا إلى أكثر من ستين الفاً، وأن تدمر المطارات وفيها الطائرات الحربية الحديثة والثكنات وقواعد الصواريخ وطوابير الدبابات والمدفعية الثقيلة.
لا بأس غداً يشتري النفط سلاحاً أكثر حداثة وأعظم فعالية، فالغرب جاهز الآن لأن يحل محل الاتحاد السوفياتي ومعسكره الذي اختفى من الوجود.
لمن القيادة الآن؟! للمجلس الانتقالي ام للحكومة المؤقتة ام لمجلس زعماء القبائل؟ وأين موقع الإسلاميين؟! ثم أين نذهب بثوار مصراته الذين ينسبون لأنفسهم حسم المعركة عبر الاستيلاء على سرت، بعد مقاومة شرسة امتدت لأسابيع وانتهت بمصرع الطاغية في ظروف ملتبسة وبطريقة مستنكرة؟. وأين الإسلاميون الذين قفزوا، فجأة إلى المسرح وبعضهم آت من «القاعدة» عبر واشنطن، وبعضهم الآخر من لندن، وبعضهم الثالث جاء من الدوحة التي باتت مركزاً كونياً لحضانة الثورات ورعايتها بالمال والسلاح والفضائية الأقوى من حزب.
هكذا نجد أنفسنا أمام أصناف من التشكيلات الإسلامية، بعضها يأتي من ماضي الاضطهاد بعد عبور «المطهر» الأميركي، وبعضها الآخر، السلفي، وهو مستجد ويأتي من الماضي ومن قبل أن يصير «الإسلام» رسالة الإيمان الموجهة إلى الناس كافة.
وفي ظل الشعار الديني تزداد معركة التغيير صعوبة وتعقيداً، لا سيما في المشرق العربي، التي تعذر على امتداد ألف سنة أو يزيد أن تمحي الذكريات أو تطمس الصفحات السوداء حاملة للوقائع الدموية الخطيرة التي كادت تذهب بالدين وهو في فجره بعد.. فوقائع الاقتتال في موقعة الجمل ثم في صفين والمذبحة، من بعد، في كربلاء ما تزال طرية، والأرض ما زالت تحمل الشهادات والسجلات الناطقة التي تستعصي على النسيان.
من هنا يتشعب الحديث عن سوريا ومستقـبل النظام فيها وينحدر فجأة إلى مخاطر الحرب الأهلية ذات الشعار الطائفي الصــريح، والتي ستـكون إذا ما تم تفجيرها مذبحة هائلة تمتد لتشمل المشرق العربي جمــيعاً، العراق ولبنان إضافة إلى سوريا، مع الارتدادات المتوقعة والتـي يمكن أن تجد لها أصداء قوية في البحرين وفي اليمن، وربما لامست المملكة العائمة على الذهب الأسود ومعها الكيانات الصغـيرة القائـمة على آبار النفط والغاز.
ومعروف أن جراح لبنان لمّا تلتئم بعد، بعد أن عاش أو فرضت عليه وعلى شعب فلسطين ومقاومته المسلحة معاهدات الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي أن يعيشا دهراً من الحرب الأهلية متعددة الشعارات والجبهات والأهداف.
وها إن العراق المثخن بالجراح الآن يحتفل بالجلاء الطوعي لقوات الاحتلال الاميركي الذي اجتاحه في ربيع العام 2003، فلم يقاتله الطاغية كما ينبغي أن يقاتل، لأنه كان قد استهلك قدرات شعبه في حروب عبثية، مرات خارج حدوده، ومرات أكثر داخل حدوده وضد شعبه بالذات.
لكن عراق ما بعد الاحتلال لم يعرف قيادة وطنية جامعة تعيد توحيد شعبه الذي اغرق في مسلسل من الفتن التي ضربت وحدته الوطنية.
يمكن القول باختصار: إن الاحتلال الذي ورث الطغيان قد أورث العراق للفتنة الأهلية.
السؤال: أي إسلام هو المؤهل والقادر على بناء المستقبل العربي في مختلف ديار هذه الأمة، التي تعيش في قلب الخوف بينما انتفاضتها تملأ الميادين وتسقط الرؤساء، في حين تجدد أنظمة الماضي ذاتها بالشعار ذي الوهج الديني مستحضرة مخاطر حروب أهلية لا تنتهي.
اللهم إذا استعاد الميدان جماهيره ومشى إلى التغيير وبرنامجه في يده، لا تشغله عنه أية مساومة مع الماضي.
4/1/2012