You are here

قراءة كتاب خذ حصتك من القتل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
خذ حصتك من القتل

خذ حصتك من القتل

كتاب " خذ حصتك من القتل " ، تأليف نصري الصايغ ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

من سوء حظ المشهد أن شيئاً لم يعتكر في الواقع، وأن المشهد العربي برمته. لم يتأثر بمأثور ما كتبت وما كتبناه، ولا هو كان بحاجة إلى نص أو فكر أو وصف. بلاغته كحدث مفصلي صاعق، فوق كل بلاغة، وإيحاءاته شتى وأغنى من الوحي الالهي، إذ لم يصْدُق أن كان التاريخ صادقاً معنا، بهذه الصورة، فانصاع لنا، وأتمر بأمرنا، وسجل لنا فضيلة ابتكار القتل المجاني، بكل ما هو جميل، والعفو الإرادي عن كل ما هو قبيح... صدق التاريخ معنا، فلم يزورنا، فيما الكتاب يتبارون في إبراز لغتهم المدّعية والعارفة، وهي على جهل عميم... كتابة ما بعد الحدث، لا تعدو أن تكون نقلاً ناقصاً عنه... ولا مهنة لي غير الرماية بالكلمات، فرميت، وما أصبت أحداً. إلا أنني في لحظات وعي انتابني، وجدت أنني مصاب بإحباط. كنت على ظن بأنني سأغيّر شيئاً ما في المشهد، أن يكون لكلماتي أثر في عقل أو نفس أو تيار أو أي شيء يتصل بصناعة الحدث، وتوليده وتشذيبه.

من سوء حظي، وبرغم صفاء النيّة وبراءة الطوية، أن المشهد لم يصفُ، بل كان يعتكر يوماً بعد مذبحة أو بعد معركة أو بعد فتوى أو بعد انتحار جماعي. المشهد العربي برمته لم يتأثر بمأثور ما كتبت، وما كتبنا. الأنبياء الحقيقيون والأنبياء الكذبة الدجالون أقوى منا جميعاً. لقد فازوا بإشاعة الخراب والقتل بتفوق.

عبثاً. كنت أكتب ولا أتبين ظلاً لكلماتي. أكتب على ممحاة، أعمّر على رمال. أقتنع بأن السراب خلاصي وأذهب اليه ببراءة المصدِّق للمعان الرمال.

أخيراً، أدركت انني شبح ولا ظل لي. وحده الورق يحملني، والأرض ليست من ورق، بل من تراب وأجساد وعسكر وممثلين عن الله، بكل ما أوتوا من قوة وغلبة، وأن لهؤلاء حق الأمرة، في مسارات الاتجاهات المتعاكسة، لأمة تنكسر كل صباح وتهزم شعوبها على عتبات ليلها الطويل.

متيقناً من عجزي، خفت على ما ندر عندي من فضائل، وأن تكون عقوبة الفضائل في زمن انتصارات الرذائل فادحة جداً. خفت أن أصبح مطواعاً لأصحاب الأمرة، ديناً وعسكراً وعنفاً ونفوذاً ونفطاً ومالاً، فاعتصمت بالحد الأدنى من ضوابط القيم والأخلاق، التي من دونها تصبح اللغة قوّادة، وتتسيَّب الكلمات لتصير خادمة في نص المقالات السياسية التي تدب بقاروراتها في مضخّات القول... خفت أن أصير ضفدعة بنقيق بلا أحزان. شعرت بفضيلة الانحياز إلى الغلط، والبقاء كشاذ عن قاعدة الانتظام في الطابور اللانهائي للعنف المتدفق من أنظمة استبدادية قاتلة، قاتلة، قاتلة، ومن أنظمة الأحزاب العقائدية القاتلة، القاتلة، القاتلة ومن جموع زاحفة باسم الدين لإقامة «الظلم الإلهي المطلق» وتحويل الدنيا إلى جحيم تفوق تلك التي توعدنا بها.

خفت أن أخسر كل شيء، فالتزمت السلبية الدائمة: لست مع أحد أبداً. انتمائي فقط للضحايا الذين قد أكون يوماً مثلهم. فامتنعت عن مدامنة نظام مستبد، وديكتاتورية فالته وملكيات نفطية قاهرة وأحزاب دينية وتيارات مذهبية... ربحت شيئاً من روحي وإن كنت قد خسرت الكثير منها. وهذا الكثير كان أحلاماً ممكنة، تحوّل مع البربرية المدنية إلى كوابيس وأضغاث.

انسحبت رويداً رويداً من هامش المشهد، لم أعد كاتباً، صرت أعيش الضحية، أعيش القتيل، أعيش المذبحة. لم أعد متفرجاً أو كاتباً بقلم، صرت روحاً تمتص الألم وتختزنه، وهذا ما منحني مناعة فائقة في ممارسة الرفض وإعلاء الكتابة إلى مقام الصراخ. كثيرة هي المقالات التي تصرخ وتتمزق وتنتف الروح. كثيرة هي المشاهد التي أسقط فيها إلى قاع اليأس، علّني، إذ أصطدم بالقاع، أعود إلى السطح متسلحاً بصخرة سيزيف، لأحملها ألف مرة، وفي كل مرة تتعرض فيها الروح إلى الانسحاق والجسد للسحق. لصخرة سيزيف فضيلة السقوط وفضيلة الصدق.

لا أستحق غير القراءة التي تمنحني العفو عما ارتكبته من غضب وعنف لغة وصياغات اتهام. استحق قراءة لتبرئة غريزة النقاء التي ظلت على هشاشتها قوية في وجه الطاغية، لا ترضخ لعنف ولا تتخلى عن الاحساس التراجيدي البناء. الذي يشكل قاعدة انتظام أخلاقنا السوية.

هذا الكتاب يشهد على عصر مريع في عام واحد. قد تسفر هذه المأساة يوماً ما عن انقلاب بهي، هذا ما يدفع الكاتب إلى استمرار المجازفة. وابتكار الاحلام، وابتداع الآمال والوقوف على العتبة المفضية إلى الحرية، من دون كلمات.

لولا هذه الحرية المشتهاة، لكان من المفضل ممارسة فضيلة السعادين الثلاثة، «فلا رأينا ولا سمعنا ولا قلنا».

بهذا المعنى، تكون الكتابة، بطاقة دعوة لضيوف من الناس الجديرين بصناعة غد من كل الألوان والافكار والحيوات.

بيروت في 13 شباط 2014

Pages