كتاب " الإستطلاع ودوره في التاريخ العربي الإسلامي لغاية 23هـ ـ 645م " ، تأليف د.
You are here
قراءة كتاب الإستطلاع ودوره في التاريخ العربي الإسلامي لغاية 23هـ ـ 645م
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الإستطلاع ودوره في التاريخ العربي الإسلامي لغاية 23هـ ـ 645م
الفصل الثاني : الأهمية العامة للاستطلاع
إن غاية كل استطلاع بصورة عامة هو جواب عن سؤال ذي صلة بأمر مجهول. خلق الإنسان وفي فطرته نزوع إلى معرفة المجهول. وهذه نعمة من لدن الباري عز وجل كي لا يكون الإنسان جامداً إذ لا يدري عن مكونات ذاته وما يحيط به من أسرار بل يصبح ذا ديناميكية مستمرة في المبادرة والإبداع. إذ يأمر الله تعالى البشر بالتأمل والتفكر بما يحيط بهم في هذا الكون العريض ليكشفوا عن بعض ما قدر فيه وفي ذوات أنفسهم من مقادير.
كما ورد في القرآن الكريم ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت:53].
إنه وعد الله لعباده –بني الإنسان- أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ومن خفايا أنفسهم على السواء. وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. هذا الدين وهذا الكتاب وهذا المنهج. ولقد صدقهم الله وعده، فكشف لهم عن آياته في الآفاق، من خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد وكشف لهم من آياته في أنفسهم وما زال يكشف لهم في كل يوم عن جديد.
لقد عرف البشر أن أرضهم التي كانوا يظنونها مركز الكون ان هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس وعرفوا أن الشمس كرة صغيرة منها في الكون مئات الملايين وعرفوا طبيعة أرضهم وطبيعة شمسهم. وعرفوا الكثير عن مادة هذا الكون الذي يعيشون فيه. عرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرة وعرفوا أن الذرة تتحول إلى شعاع وعرفوا إذن أن الكون كله من إشعاع في صور شتى هي التي تجعل منه هذه الأشكال والأحجام. وعرفوا الكثير عن كوكبهم الأرضي الصغير. وعرفوا أنه كرة أو كالكرة وعرفوا أنه يدور حول نفسه وحول الشمس، وعرفوا قاراته ومحيطاته وأنهاره وكشفوا عن شيء من باطنه وعرفوا الكثير من المخبأ في جوف هذا الكوكب من الأقوات. ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في اغوار النفس بأقل منها في جسم الكون. فقد عرفوا عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير. عرفوا عن تكوينه وتركيبه ووظائفه وأمراضه، وغذائه وتمثيله، وعرفوا عن أسرار عمله وحركته ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله. وعرفوا عن النفس البشرية شيئاً أنه لا يبلغ ما عرفوه عن الجسم لأن العناية كانت متجهة بشدة إلى مادة هذا الإنسان وآلية جسمه أكثر مما كانت متجهة إلى عقله وروحه([85]). وهكذا نرى أن هذا المنهج الاستطلاعي يقع في فطرة الإنسان القائمة على البحث والتقصي المستمرين لكشف الأسرار والوقوف على حقائقها والذي يمكن عده منهجاً استطلاعياً معرفياً.
يتناول القرآن الكريم هذا الموضوع مرةً أخرى حاثاً الإنسان على التفكر للوصول إلى أسرار الكون عن طريق الاستطلاع المعرفي لتدبر عظمة خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار من ظلام إلى نور ومن نور إلى ظلام، إن هي إلا شواهد وبينات لأصحاب العقول يدركون أن خلقها لم يأت عبثاً بل جاء عن حكمة ربانية هادفة ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ،الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:190-191]. إن هذا التعبير في هذه الآية القرآنية الكريمة يرسم لنا صورةً حيةً من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون بالليل والنهار ومشهد السماوات والأرض ومشهد اختلاف الليل والنهار لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا. لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة، لارتعشت له رؤانا ولاهتزت له مشاعرنا ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لابد من يدٍ تنسق ووراء ما فيه من نظام لابد من عقل يدبر ووراء ما فيه من أحكام لابد من ناموس لا يتخلف وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعاً ولا يمكن أن يكون جزافاً ولا يمكن أن يكون باطلاً. ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى (الجاذبية) أو غير الجاذبية. هذه فروض تصح أو لا تصح، وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها([86]).
تأسيساً على ما تقدم وتأكيداً على أن الإنسان مجبول بفطرته على حب المعرفة وكشف أسرار الكون، نجد أن في مسيرته عبر التاريخ تطلع مستمر ومتجدد لحل ألغاز ما يحيط به من الكائنات.
اذ نرى الإنسان تارةً يبحث في العلوم الفقهية وطوراً في الأصول الفلسفية، ومرةً في الاكتشافات الجغرافية وأخرى في الأبحاث العلمية وأخرى في الجانب العسكري.