كتاب " لذة النص وبهاء القراءة " ، تأليف د.
You are here
قراءة كتاب لذة النص وبهاء القراءة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وعلى الرغم من أن الخمرة في الآخرة هي إحدى جوائز المؤمنين والأبرار، إلا أن الصوفي الشاعر أو الفنان يقدمها لنا ضمن إطارها الدنيوي مع ما يتعلق به من مناظر للحانة، والساقي، والشرب، والطرب لصناعة أبعاد درامية للعلاقة بالخمرة، تحاول الشاعرة من خلالها تطوير هذه العلاقة للوصول إلى قمتها أو ذروتها في (الرواء الموصل) إلى الفناء بالمحبة الإلهية التي يغيب بها المرء عن الأغيار.
وفي دراسة لشعر عائشة الباعونية رصد الدكتور حسن ربابعة الموقف الخمري عندها محاولاً كشف ملامح (حال السكر) فوجده ينقسم إلى ثلاثة أقسام: (الذوق والشرب والري) مشيرا إلى أنها تعتمد على تراث الصوفية في ذلك، فقد جاء عند القشيري وغيره شيء من التفصيل في هذه الاصطلاحات التي تشرح (حال السكر) عندهم. لذا فالذوق «يحصل للذائق بانكشاف الجمال له، ويحظى بشيء منه نفساً أو نفسين، وأما الشارب فينكشف له الجمال ساعة أو ساعتين، وأما المرتوي فهو الذي يتوالى الأمر به ويدام له الشرب، حتى تمتلئ مفاصله وعروقه من أنوار الله المخزونة»(14). ولما كان هذا التقسيم تراثاً عاماً للمتصوفة فإننا بحاجة إلى إعادة النظر في طرائق التعبير عند كل واحد منهم، لذا فسؤالنا هنا يدور حول طبيعة اللغة الشعرية التي عبّرت بها عائشة الباعوية عن هذا (الحال).
لقد عبّرت الباعونية في بعض أزجالها عن مرحلة (الذوق) قائلة:
يا فقرا أفنوا الإحساس
في خمرة راقت في الكاس
ذايقها في الناس قد كاس
والريان فيها سلطان
ولعل اختيارها لهذا الشكل اللغوي الشعبي والبراعة في التركيب وإبداع العلاقات داخل الجملة نمط من الكثافة البنائية التي تشكل بحد ذاتها دلالة مقصودة، لذلك جاء التركيب كما يلي (ذايقها في الناس) دلالة على عمومية مرحلة الذوق وعدم التميّز فيها، أما قولها (الريان سلطان) فالدلالة واضحة على التملك والتفرد والتميز والوصول حيث لاحظنا كيف جاءت العلاقة مباشرة بين (الريان وسلطان) دون أي فواصل لغوية كتلك التي جاءت في قولها (ذايقها في الناس..).
وإذا كان (الذوق) هو المقدمة والمفتتح، وهو مسألة عامة ومشتركة، فإن المرحلة التالية والدائمة، وفي ذلك دلالة على أن الوصول إلى مرحلة (الري) تسبقه مجاهدة ومكابدة طويلة مثلتها حال الشرب التي ستنتهي يوماً إلى (ري):
سقاني حميّا الحب من قبل نشأتي
ومن قبل وجداني طربت بنشوتي
هي الشمس، إلا ما تغيب وإنها
لتطرح أهل الشُربِ في تيه غيتي
لها البدر كأس والنجوم حبابها وندمانها الأحباب أهل المحبة
وكأس بلا كيف، وخمر مروّق
بدن تداني حل حال المحبّة
يدور بلطف يمتلي بعناية
يفوح بروح فيها روحة راحة
فاللغة وتركيباتها هنا هي التي توطّر التجربة الصوفية المتميزة بالفرادة، وتشكل له عالماً مختلفاً عن عوالم الفن الأخرى (الشعراء من غير المتصوفة) ممن يعتمدون في فنهم على الخيال والصورة الشعرية بدرجة أولى، لكن اللغة هنا ذات سلطة مطلقة في التعبير عن الحالة بدقة متناهية، فالشاعرة تجهد نفسها في إيصال فكرة (اللامدرك) في شرح حال السكر الذي لا شرح له.
فالسقيا في النص تمت من قبل النشأة (زمن المجهول) والخمرة تطرح أهل الشرب في تيه الغيبة (مكان مجهول) والكأس بلا كيف ويفوح بالروح (هيئة مجهولة).
إذن نحن أمام جهد لغوي يعمد إلى غلق عالم الخمرة وتحديداً في مرحلة (الشرب) المرحلة الوسطى ليصبح نظام السياق الخمري عندها كما يلي:
الذوق --> حالة عامة تشكّل بدايات السلوك.
الشرب --> حالة مستمرة تدخل السالك في مجهول الزمان والمكان والهيئة.
الري --> وهي نهاية طريق السالك التي تؤدي به إلى (الحقيقة) حقيقة الامتلاء بالمحبة الإلهية والقرب الأبدي من الذات المقدّسة.