كتاب " أكواخ الظلام " ، تأليف عبدالله بن علي السعد ، والذي صدر عن
You are here
قراءة كتاب أكواخ الظلام
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
البائع الصغير
الشوارع تختنق من شدة الزحام.. والحرارة تذيب الإطارات.. والرطوبة تأكل الحديد.. والأكفّ الصغيرة تحمل زجاجات الماء البارد وتبيعه على قارعة الطريق.. وبجوار إشارة ضوئية وقف طفل صغير يحمل بعض الزجاجات والعرق يتصبب من وجهه الأسمر.. وشعره الأسود الناعم قد صفف في وضع عشوائي مع نظرة ساهمة منكسرة ستجبرك على التأمل في وجهه والشراء منه.
كان توفيق هو الولد الأصغر في عائلة مكونة من ستة أفراد.. أكبرهم لطف وهو في الثانية عشرة من عمره يليه ثلاث بنات ثم يأتي دوره في الترتيب.. ويفصل كل واحد منهم عن الآخر سنتان قضتها الأم نعيمة في الرضاعة.. لذلك تعمل الأرملة أحياناً مع أولادها لتسد الأفواه الجائعة بشيء يأكلونه.. ولتسدد أقساط الغرفة التي تقيم فيها مع أولادها.. وعند كل مساء تنتظر نعمة عودتهم بقلق..
- أمي متى سيرجع لطف؟
وتخفي الأم دمعة عن ابنتها.. وتعود بذاكرتها إلى الشهر الماضي.. يوم أن تأخر ولداها عن العودة.. ثم عاد توفيق لوحده ليخبرها أن أخاه معتقل.. ومن يومها وهي تنتظر توفيق كل ليلة وتخشى ألا تراه ثانية.
كان على لطف أن يمضي وقتاً في السجن لمخالفته للقانون.. لأنّ بعضهم اعتبره متسوّلاً، ومن هنا فقد تم التحفظ عليه لبعض الوقت لحين يأتي وليه ليتم التفاهم معه.. ولم يكن للطف أقارب سوى أمه، ولكن المتابعة وتعيين محامٍ للطفل سيكلف الأسرة الفقيرة الشيء الكثير.. وهكذا طالت الأيام في غيابه عن أسرته.
وفي المنزل لم يتغير البرنامج كثيراً، ففي الصباح يذهب الأولاد إلى المدرسة.. وترافق الأم ولدها الصغير لبعض الوقت تشجعه على البيع وتعلمه.. ثم تقف بعيدة عنه تبكي على زهرة طفولته.. وتلجأ إلى الله أن يقضي حاجتها وينهي فقرها.. ويبقي كرامتها وعفتها بعيداً عن أيدي العابثين.
وفي الوقت نفسه كان توفيق يشعر بالغربة بعد أخيه.. ويقف وحيداً تحت الشمس الحارقة ينتظر توقف السيارات.. ثم يجري بينها ليحاول أن يبيع ما يحمله بين يديه الصغيرتين.. وهكذا تمر الأيام عليه.
حرصت نعيمة على أن تعلم أولادها.. وكرهت أن تمر أسرتها بالتجربة نفسها.. ولكنها كانت تبذل الكثير من الجهد من دون أن تشعر فتسرب المرض إليها شيئاً فشيئاً.. وأخذت صحتها تسوء. ولكي توفر لأولادها حياة كريمة حرمت نفسها من أبسط احتياجاتها.. وهكذا وجد المرض فرصته ليتمكن من جسدها النحيل.
عاد لطف من حبسه.. وعاد ثانية إلى الجري بين الإشارات الضوئية.. وهكذا بدأت الأم تشعر بنوع من السكينة.. ومرت الأيام ليحين وقت الدراسة لتوفيق الصغير.. فقلّت مواردهم المالية جرّاء تغيّبه عن العمل في الفترة الصباحية.. وكان لا بد للصغير أن يبذل مزيداً من الجهد في المساء ليساعد في إعالة أسرته.. وبدأت نعيمة تعمل أيضاً في خدمة بعض الأسر متحاملة على نفسها وعلى مرضها.. ومضحية بشيء من كرامتها في تحمل غضب الآخرين وتجاوزاتهم.. وتصدرت "هناء" البنت الكبرى للبيت فقامت مقام أمها في ترتيب الأمور والاعتناء بحاجات إخوتها المختلفة.
أيقظ صوت الأم المتعبة هناء من نومها.. فقامت على شيء من السرعة لتضع رأس الأم في حضنها وتذرف دمعة يشهد الليل بعمق ألمها.. وفي سكون الليل مزق الصمت دمعة ألم.. ودمعة أسى..
- ما بك لا تنامين يا هناء؟
- ... هل أنت متعبة كثيراً؟
- لا يا ابنتي.. فقط زكام وسينتهي سريعاً بإذن الله..
- إذاً لا تذهبي إلى العمل حتى تتعافي.
- ومن سيساعدنا يا ابنتي؟
- الله يا أمي..
- نعم يا هناء.. والله طلب منا بذل الأسباب.. ولذلك لا بد من العمل.
- ولكنك مريضة..
- ليس كثيراً.. وسينتهي هذا الألم بعد وقت قليل.. فقط أوصيك يا حبيبتي بإخوانك.