كتاب " خرفان المولى " ، تأليف ياسمينة خضرا ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
قراءة كتاب خرفان المولى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
خرفان المولى
الشيخ عَبّاس شاب في الخامسة والعشرين من عمره. لقد طبعت إقامته المتكررة في السجن وجهه بمسحة من الهيبة الروحية. كان يتربّع في عمق القاعة، جالساً على الوسائد كشيخ زاوِيَة، البصر بعيد والسبحة في اليد. يحيط به مُريدوه الذين يحضنون بصمت هذه الشخصية المهيبة التي لم تتمكّن سجون الطاغوت من ترويضها. في سن السابعة عشرة، كان يُلقي خُطباً في أشهر المساجد، مُلمّاً بعلم عظيم وبلاغةٍ تبهر أمهر الخطباء. يَعْرف أحسن من غيره الجمع بين الأحاديث النبوية الشريفة وبين أقوال الشعراء. حينما يهاجم المفسدين وأعوان السلطة، يُخيّل لسامعيه أن خطبه النارية ستَرجمهم في الحين. يُروى أنه تمكّن من هدي جميع الحثالة الذين يقبعون داخل السجون.
بالنسبة للناس البسطاء، إن الشيخ عباس علامة رَبّانية. إن لم يكن يحمل رسالة سماوية، فإنه ليس إلا أجْدر خادم لها. هذا ما كان يقوله الضيوف وهم يغرفون من قِصع الكُسْكُسي، بأذقانهم المبللة بالمرق والأسنان التي لا تزال تحتفظ بألياف اللحم.
لم يكن الشيخ عباس يأكل. يجلس على عرشه، مُستمسكاً بهيبته، ويتابع قطيعه وهو يرعى، في سكينة نادرة. سأل زان القزم بين لقمتين ابتلعهما بسرعة:
- هل عذّبوك؟
ردّ عملاق مُستنكراً، وهو يمزّق بيديه المسعورتين قطعة لحم:
- لا يُعذّب القديس. إن الشيخ عباس روح، لا تصل إليه يد ولا تمسك به سلسلة.
لاحظ القزم بأن فضوله أفقده قطعة لحم. مباشرة التفت نحو قصعة مجاورة.
تاج عصمان، ابن عيسى العار، لا يأكل هو أيضاً. مُنذ أن تمكن من إحراز مكانة بقرب الشيخ، قرّر التمسك بها بكل ما يملك من قوة. يتنافس الضيوف على الاقتراب من الشيخ. يعرف أن الكثيرين يلومونه في السرّ على هذا التدنيس. وإذا كان يحاول بقدر الإمكان أن يبدو صغيراً، فلكي يتخلص من النظرات المستاءة التي لا تنفك تتعاظم.
كلما تململ الشيخ جمد المحيطون به، مترقبين أمراً أو حركة. عباس لا يقول شيئاً. قام بعض الأصدقاء بأداء حركات مسلية محاولة منهم لإخراجه من وقاره بلا جدوى. ومع ذلك، وحسب طبيعة التصنّع وصاحبه، يحدث للشيخ أن يرفع بصره إلى مُسلٍ، فيسعد الجميع. قال علال الشرطي وهو يمسح يديه بمنديل:
- أتأسف لانسحابي من الوليمة مُبكراً. إنها نهاية عطلتي. سأعود إذاً باكراً.
التَزَم الشيخ دقيقة صمت، كما لو أنه لم يفهم، ثمّ قال بلطف:
- شكراً على مجيئك.
- وددت لو بقيت معكم وقتاً أطْوَل...
- لا أشكّ في هذا. كنت سعيداً برؤيتك. قبل أن تغادر، اسمَح لي بأن أقدم لك هدية.