رواية "بعد رحيل الصمت"، عالج من خلالها الكاتب والفنان التشكيلي العراقي عبد الرضا صالح محمد، قضية «ثقافة كم الأفواه» ومنع إبداء الرأي، والإسكات القسري في عالم تحفّه المخاوف وتفرضه سلوكيات الهيمنة الحزبية أو الحكومية، مقوماته الجريمة والقتل على الشبهة ومخالفة
أنت هنا
قراءة كتاب بعد رحيل الصمت
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
انطلقت قدماه
خارج البيت زحفا، بعد التهامه وجبة سريعة من الطعام، قدماه الغائصتان بنعل من البلاستك وبثوبه الأبيض، مضى إلى جانب البيوت المشيدة بالآجر القديم، والتي تجود بظلالها الوارف على مشارف الزقاق، يحتمي المشاة بمحاذاتها لتقيهم حر الظهيرة اللاذع، كان ذلك في شهر أيلول عام 1962، تخطى الطريق الإسفلتي الذي تتوسطه ساقية الماء الآسن الفائض عن الحاجة، مشى مع الجدران التي تتوزع أبواب الخشب القديمة المزخرفة بنقوشها البسيطة، ورغم بساطتها فإنها تمنحك شعورا بأصالتها وإرثها الموفور، فالمكان دائما ما يوحي للقادم من بعيد بماهية الناس وصفتهم وصورهم، فهذه الجدران ما هي إلا صناديق تحتضن كنوزا من القيم التي عاشت بها، وإرث صورته السنين والأيام، من طيبة وبساطة وشهامة، ومن قلوب بيضاء لا يعكرها الوهن ولا اللغوب؟
انعطف مع انعطاف الزقاق الذي يفضي إلى الشارع الرئيسي، وفي نهايته وعلى جهة اليمين جاس زقاق المسجد (مسجد ملا رجي) الذي يقبع هناك كتلة جاثية وأطلالاً هامدة، لم يبق منه سوى ساحة للصلاة تتوسطها نخلة باسقة، يعود بناؤه إلى زمن الأتراك، حيث شيد للصلاة وتعليم الصبيان على حفظ القرآن الكريم، حيث كان الشيخ الورع (رجي) يجمع أطفال المدينة فيه ليعلمهم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم·
من بعيد شاهد صاحبه متكئا على زاوية الجدار المقابل للمسجد، لم يظهر من شبحه سوى جزء من ثوبه الداكن، كان قد سئم الانتظار، يتضح ذلك من تململه في الوقوف وحركته المتتابعة، لوح له من بعيد، لكنه لم يره، وضع إبهامه وسبابته تحت لسانه وأطلق صفارة أخرجت صاحبه من ذهوله، تقدم إلى الأمام بعد أن نزل من عتبة الباب بتأن ولوح بيده·
بعد أن حياه أيوب شكا إبراهيم إليه التعب والتوجع من طول الانتظار، مضيا معا مجتازين زقاق المسجد المنفتح على كورنيش المدينة عند ضفة نهر الكحلاء، توقفا عند مسناية النهر كان ذلك لأيام مضت من شهر أيلول، ينظران إلى مياه النهر، تغريهما موجاته المتدافعة التي راحت تتجمع تباعا عند حافته وتصطدم بشاطئه من جراء نسيمات الرياح الشرقية المحملة بالرطوبة، والتي تلامس جسديهما ـ وهما لا يزالان في ثيابهما الصيفية ـ أحسا بلفحة برد خفيفة، قبل أسابيع كانا في هذا المكان ينتظران أصحابهما ليكونوا مجموعة تتألف من (يحيى وإبراهيم ويونس وأحمد وكريم)، يودعون ثيابهم عند أسس المسناية، ويعبرون نهر الكحلاء إلى الضفة الأخرى، كان يونس الوحيد بينهم الذي لا يعرف