يرحل زيد الشهيد في مؤلفه الروائيّ (أفراس الأعوام) بقطار الشعريّة إعتماداً على لغة ثريّة منطلقاً من أواخر خمسينيّات القرن العشرين عائداً إلى عشرينيّاته ليواكب حركة بطله وهو يرى الأحداث الّتي تعصف ببلده العراق إبتداءً من ثورة العشرين ومجيء الحكم الملكيّ الذي
أنت هنا
قراءة كتاب افراس الاعوام
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
صرخ الحارس وقد أيقن أنَّ خطراً جدّياً يحصل، وأنّه سيعاقب إن هو أهمل واجبه ولم يتدارك الأمر؛ فوجّه بندقيته الـ(شنايدر) الألمانية ذات الماسورة الطويلة صوب المهاجمين، وهدَّدهم باستخدام الرصاص إن لم يكفّوا عن فعلتهم· انهمك الجميع دون أن يولوه اهتماماً؛ بل بدوا أنهم يستهينون به فأطلق رصاصةً في الهواء علَّهم يتوقفون ويهربون· وكان على وشك أن يطلقَ الرصاصة الثانية عندما امتدت يدٌ من ورائه لتسحبه إلى داخل مبنى السراي· تلك اليد كانت لرئيس مجموعة الحرس الذي آثر أن لا يشرك مَن بعهدته في موقفٍ شائك كهذا، هو الذي كانت لديه خبرةُ عشرة أعوام في هذه المدينة؛ فهرول مسرعاً يعتلي السلم وصولاً إلى القائمقام·· القائمقام لم يذهب تلك الليلة إلى بيته بل نام في مكتبه بعدما عقد ولساعات طويلة من الليل اجتماعاً ضمّ قائد الدرك وأعيان محلتي (الغربي) و(الشرقي)، اللتين تشكلان الجانب الكبير من المدينة وأخذ منهم تعهداً أن يحموا بلدتهم بكل ما استطاعوا من رجال وعزائم وإيمان ويصدّوا هجوم الإنكليز المدركين أعتابها· غير أن هذا التعهد كان بمثابة إيماءة تشير لضعف سلطة الحكومة، ما جعل المتربصين يبادرون بالهجمة القاصمة لهيبتها ضرباً في اقتصادها·
ما إن استيقظ القائمقام ونهض من سريره في الغرفة الملاصقة لمكتبه حتى سمع نقرات خفيفة متسارعة على الباب وصوت قائد حرس السراي يهمس بصوت خفيض: بيك·· بيك! حين فتح الباب ترجم علامات الخوف تتبارى على ملامح الوجه الأسمر الشاحب الممتقع، وصوت الرعب يقول: إنهم ينهبون مخزن التموين·· فيهم مسلحون لا يأبهون لتحذيراتنا!
تلك اللحظة شعر البيك أن كل ما بناه طيلة فترة وجوده قائمقاماً للقضاء انهدَّ، وأنَّ قراراته المبنية على أساس تصميم يقيني على تغيير واقع المدينة نحو الأفضل تفتَّت، وتهاوى، وانهار؛ وأنَّ القائمقام السابق الذي سلَّمه مهامه الوظيفية كانَ محقِّاً عندما قال: أنتَ جئتَ إلى القضاءِ الخطأ، وأنا بقدومِكَ فزت بالنتيجة الصح
ترك قائد الحرس منتصباً عند الباب وتحرك إلى النافذة المطلة على شارع النهر· وقف هناك يطالع جموع الناهبين في حالة هرجٍ ومرج وفوضى· وجوههم وملابسهم وأيديهم ملوثة بالدقيق والسمن؛ يهجمون ثم يخرجون محمّلين بكل ما يقدِرون على حمله من مُلكٍ مُستباح، ما يلبث آخرون أن يتولّوا فورةَ هجومٍ أخرى، وتحميل آخر· ومن بين ما يجري ويدور أبصر القائمقام أحدهم وقد غزته ذرات الطحين فغمرت وجهَهُ، ولم تَبن غير عينين وفم امتلأ بالمسحوق اللزج فبدا كما لو كان منهمكاً في التهامه ما أوصله إلى حالة الاختناق، فراح يجهد في شم الهواء· وحين لم يجد مَن يعينه على التخلص من محنته عدا راكضاً باتجاه الجسر الخشبي· ومن هناك ألقى بنفسه إلى النهر سعياً لتفادي اختناقه وضياع حصاد غزوته·