المجموعة القصصية "هي قالت هذا"، 22 قصة انطوت تحت ثلاثة عناوين هي "أنفاس الليل.." و"أظافر صغيرة.." و"إذعان صغير" حيث ضم القسم الأول سبع قصص منها، أما القسم الثاني فاحتوى على ست قصص منها - كما ذكرت جريدة "السوم" السعودية - "أظافر صغيرة وناعمة" و"حالة فصام" و
أنت هنا
قراءة كتاب هي قالت هذا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
أنفاس الليل
في هذا الليل البري، البارد، والهادئ، والمخيف، والممطر بهدوء، كنت أسمعه يأتي خفيفًا من بعيد، كأنه صوت طائر محبوس، أو صوت لكائن آخر لا أعرفه، لكنه صوت أنيس، يشبه الموسيقى أحيانًا، وأحيانًا يشبه الرنين البعيد ·
أسمعه الآن، وأنا أرتجف بردًا، بعد أن ترجلت من سيارتي التي هوت في منحدر صغير وسط براري المدينة القريبة، حين كنت أبحث عن مخيم غامض الملامح·
أغلقت أبواب السيارة بعد أن أضأت نورها القصير ثم مضيت، تجاه ضوء بعيد وشاحب، يظهر أحيانًا ويغيب فجأة، ظللت أسير وسط الظلام، على أرض مظلمة، ورطبة لازالت تستقبل مطرها الخفيف، وحولي ذلك الصوت الذي يأتي من كل الجهات موسيقيًا وعذبًا، يرن في أذني الآن بقوة، صوت أليف ومميز وسط هذا الضياع الغريب، حتى إنني لا أعرف اتجاه المدينة، رغم الأضواء البعيدة والباهتة التي أراها تنبعث أحيانا من كل اتجاه، و تختفي فجأة وكأنها شهب دخلت في لعبة مسرحية مع (خوفي) الذي لم يبلغ منتهاه، لكنه لازال ممتعا ومُنتظرًا أو متحفزًا أو مندهشًا·
مشيت مسافة نصف ساعة تقريبًا، حتى أضعت أنوار سيارتي، ولازال الصوت الخفي يتبعني، مع صوت المطر على الأرض الرطبة، والهواء البارد يضرب صدري ضربات متتالية، حتى بدأت أشعر أن حلقي صار أكثر جفافًا وخشونة، مع إحساسي بالدوار، وخطواتي أصبحت أقل اتزانا، وبدأت أتحدث مع نفسي وأنا اضرب الأرض الممطورة بقدمي الرخوتين، حتى عاد صوت الطائر المحبوس، قادمًا، ربما من البعد، يضيء ظلام الوقت والمكان والروح والأسئلة والخوف·
كنت أفكر، وسط هذه الحالة بأشياء صغيرة، أحيانًا أمشي، يأسا، وعيناي على الأرض، أسترجع شريط حياتي القريبة، وأخذت موقفًا من بعض الأشياء والممارسات، بدأت أحاكم الرجل الذي كنته قبل هذا الضياع، وكنت أتساءل : كيف تسنى لي، أنا المغرور بذاتي، أن أتجاهل أشياء مهمة، كيف أضعت الوقت والفرص و······
بدأت البحث في الكثير من الأفكار، وإعادة تصوير الكثير من المواقف، بدأت الأشياء والأفكار والصور واضحة وجلية أكثر من أي وقت مضى، ورأيت كيف تتداخل الصور المتناقضة والصحيحة بعضها مع بعض، وكيف في ظل الانشغالات نقبل بكل شيء، كنت أرى عالمنا مثل جزر معزولة، وأرى المسرحية بكامل فصولها، مع صوت ذلك الصفير البري أو الطائر المحبوس · كنت أعود إلى الطفل العظيم في داخلي، وأشعر أن هذا المكان النائي بدأ يترك فيَّ أثرًا من روحه، مضمخًا برائحة جديدة ونفاذة لم آلفها بعد، وكنت أحاول أن أتعايش مع هذا الألم بسرية ووقار، في حين تنفجر الذاكرة بلا إرادة فيَّ، مبتعدة هناك إلى الطفولة القصوى، وإلى تعرية الواقع الذي كان واقعًا ضخمًا، ومسيطرًا بضبابه، قبل هذا الموقف·