تدخل رواية "حز القيد" في جنبات حياة الإنسان، كما تدخل خيوط النور خلسة بين فتحات الشبابيك..
أنت هنا
قراءة كتاب حز القيد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
الرسائل التي تحملها تلك الكتابات، كان هدفها تهيئة الناس لبدء تحول جذري· هذا التغيير وإن لم يكن معلنا، إلا أن كل شيء آخر يشير إلى قرب وقوعه أو يكاد·· الأمر الذي حوَّل الجدران إلى ساحة صراع بين المخبرين ومن يقف وراء هذه الكتابات!
ولكي لا تُجر إلى معركة تعرف مسبقا أنها الطرف الخاسر فيها، وظفت أجهزة الأمن صباغين يجوبون الشوارع والأزقة نهارا لطمس هذه الكتابات ـ دون جدوى ـ لينهض الناس في اليوم التالي على كتابات أخرى·· في شوارع وحارات أخرى من المدينة·· أكثر قوة وأشد تحريضا عن ما سبقها من كتابات!
متابعة الكتابات الجدارية وقراءتها، وإن بدأت بين الفئات الأكثر وعيا والأكثر ثقافة، إلا أنها أخذت تجذب فئات أخرى من المجتمع، وذلك عندما انتشر خبر الصراع بين من وظفتهم أجهزة الأمن وكتاب الجدران، وإن كانت أدوات هذا الصراع لا تتعدى أصباغاً وفرشاة وجدران المنازل· وأصبح الصراع، الذي شبهه بعضهم بـ(لعبة القط والفأر)، محور حديث الناس، ومسليا للبعض منهم·
وإذا نفد صبر تلك الأجهزة، صدرت أوامر غير معلنة لكل تجار الأصباغ تأمرهم بتدوين أسماء كل من يشتري صبغا أو فرشاة وعناوينهم، ومعرفة غرض استخدامهما· وتحولت الأصباغ من مواد للتلوين والرسم والتجميل إلى مواد خطيرة يحظر تداولها، ويمنع استخدامها إلا بعد معرفة هوية المستخدم وغاية الاستخدام!
***
استمرت حملة الاعتقالات، وازداد عدد المعتقلين، وكان الأسلوب واحدا: يطوق العسكر منزل المطلوب، ويُؤمر سكانه عبر مكبر الصوت بإخلاء المكان ورفع أياديهم فوق رؤوسهم، ثم يُُفتش المنزل· كان التفتيش يطال حتى أحواض الشفط في المراحيض بحثا عن أسلحة أو كتب مهما كانت طبيعتها، أو آلات طباعة·· حتى الصور لم تنجُ من المطاردة!
وكانوا يضعون رؤوس المعتقلين في أكياس خيش تشبه أكياس الحبوب، ثم يُزجّون في صناديق شاحنات معتمة تأخذهم إلى حيث لا يعلم أحد مصيرهم·
كان العسكر في بداية حملة الاعتقالات، يظهرون أوامر اعتقال صادرة عن الادعاء العام، إلاّ أن هذه الأوراق فقدت قيمتها القانونية ولم تعد لها ضرورة عندما أعلنت حالة الطوارئ في البلاد، وأصبحت قوانين الأحكام العرفية هي النافذة وفوق كل قانون· فبداعي الحفاظ على استقرار الوطن وصون وحدته، كانت التهم تطال كل من يرفع صوتا أو يبدي تذمرا·· لأي سبب كان!
توالت الكوارث·· تتابعت المصائب·· تدافعت الأحزان، وأصابت الكآبة النفوس وهربت الابتسامة من الوجوه! كانت المدينة تنام وتصحو على أخبار الاعتقالات، وتعيش يومها بلا بهجة، وليلا تتحول شوارعها وأزقتها إلى خرائب لا تسكنها إلا الريح والكلاب الضالة·
وفُقد الأمان·· تغلغل الرعب في الصدور، وتسلل الخوف حتى إلى قلوب الذين لا يكفون عن التأكيد أنهم غير معنيين بشؤون غيرهم، ولا يجدون حرجا إذا عرج حديث عابر إلى ما كان يجري في قحطين في قطع سير الحديث ومغادرة المكان وهم يرددون (أمشي على الحيط وأقول يا الله الستر)·· وظنوا أن السكوت، وحشر الأصابع في الآذان، ووضع الأكف على العيون، يضمن الأمان ويكفل لهم راحة البال، وما فعل!
ازداد قهر الناس· بانت الحيرة في وجوه الرجال، وتجلى الحزن في بكاء الأمهات واختناق الغصة في أصوات الزوجات، والأخوات، والبنات· فلقد طالت الاعتقالات أناساً كثراً، فمن لم يفقد ولدا، زوجا، أو أخا، فقد قريبا، جارا أو صديقا، ومثلما حُشرت رؤوس عمال وفقراء داخل تلك الأكياس، لم تسلم رؤوس وجهاء وأدباء، وفنانين منها·· حتى النساء أصابهن بعض ما أصاب الرجال· ولا شيء كان يشغل الناس غير القلق والترقب، وسؤال لا إجابة له (وماذا بعد؟)·
وبمرور الأيام، ازدادت القصص وتنوعت الحكايات·· بعضها واقع وأخرى أوهام من صنع الخيال، وبين قصة وحكاية تختلط الإشاعات بالحقيقة والخير بالشر، ويصبح الدعاء كالبكاء!
والألسن لا تكلّ ولا تملّ·
وكعادة الناس في مثل هذه الظروف، يضيفون على ما يسمعون ردود أفعالهم تجاه ما يحدث·· يبالغون ويغالون، وأحيانا يختلقون قصصا أساسها رغبات ليس أكثر! وإن كان لا أحد يجزم أن القصص والأخبار التي تتناقلها الألسن هي الحقيقية مائة في المائة، إذ إن معظم من يروي هذه الأخبار يبدأ حديثه وينهيه بلوازم لا تجزم الخبر ولا تنفيه·