أنت هنا

قراءة كتاب حز القيد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حز القيد

حز القيد

تدخل رواية "حز القيد" في جنبات حياة الإنسان، كما تدخل خيوط النور خلسة بين فتحات الشبابيك..

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10
ورغم ما يثار من إشاعات وأقاويل عن صاحبة البيت المشبوه وزوار الليل، والفجور الذي تفوح رائحته مع صخب السهارى ومجونهم، لكن لا أحد من بين سكان الحارة لديه الجرأة للتأكد من طبيعة ما يجري هناك· ليس ذلك وحسب، بل إنهم يتحاشون المرور بجوار دارها!
 
ويتداول همسا أن رئيس مخفر الشرطة حذر سكان الشارع من التعرض للمرأة أو إساءة معاملتها· ولعل ذلك ليس سوى عذر أقنع الناس به أنفسهم تبريرا لعجزهم عن معرفة حقيقة المرأة وطبيعة نشاطها الليلي·
 
ومنذ أن وقع نظري عليها أول مرة، وهي تقطع الطريق ما بين بيتها ودكان البقالة، سكنني الفضول وهيمنت عليّ رغبة جامحة لمعرفة سـر الصخب الليلي المتسلل من بيتها، وسر أولئك الملثمين: أشباح الليل· فأمضي ساعات أسـترق السمع إلى حديث النساء وضحكهن الماجن·· أبحث عن ضحكة أخرى مختلفة كاختلاف صاحبتها ـ ذات القامة الهيفاء والمشية الراقصة ـ عن غيرها من النساء!
 
***
 
كانت مشاعري تجاه ما سمعت عن تلك المرأة خليطا من الخوف، والشفقة، والتعاطف، ولعل مشاعر خفية طغت على كل شيء آخر غيرها· فصورتها التي اِلْتَقَطَتْها عيناي أول مرة رأيتها وحفظتها ذاكرتي في مكان أقرب إلى القلب، ما برحت ذاتي طوال ما تبقى من ذلك النهار· ولم يعد بوسعي طرد الأفكار والوساوس من رأسي، وأمضيت الليل في سهد·
 
وفي الفجر حسمت أمري بعد أن سلب التفكير مني النوم كله، وقررت ـ أنا الذي ما كان سيهدأ لي بال ويستقر بي حال ـ التحقق من الخبر بنفسي· وكان لا سبيل لذلك غير الذهاب إلى حيث رأيتها أول مرة: شارع طوبان·· لاسيما وأن علاقتي ببعض رموزه لم تنقطع منذ أن تركنا الحارة، وظني أني سأجد عندهم ما يشبع فضولي ويجيب عن تساؤلاتي!
 
ولعل من غير المناسب، وأنا أتحدث عن المرأة بهذه الحميمية، الاستمرار في نعتها بـ(صاحبة البيت المشبوه)·· خاصة بعد أن عرفت عنها ما عرفت· والى أن تظهر الحقيقة، قررت أن أدعوها باسمها·· وعبثا حاولت تذكره! ولعلي لم أعرفه ولا سألت عنه طوال فترة إقامتنا في حارة شارع طوبان·
 
***
 
دخلت الشـارع· وكعادته كل صباح كان يستقبل اليوم الجديد بترنيمته المعهودة: تَدافعْ التلاميذ لصعود حافلات المدارس، ومنظر بائعات الخبز والحلويات المنزلية·· جلسن خلف صوان ضخمة على رصيف الشارع، ونساء مسنات يفترشن الأرض أمام باب المطعم يبعنَ لزبائنه اللبن الطازج، ودخان محركات شاحنات البضائع والدراجات النارية وضجيجها، والعتّالون وهم يسحبون خلفهم عربات نقل وضعوا عروات حبالها على أكتافهم كما تجر الخيول والبغال العربات، ونداءات الباعة وأصوات الزبائن، وتبادل تحيات الصباح كل حسب طريقته·· تختلف كلماتها وتتفاوت حدتها بين من يرفع عقيرته عاليا إلى أقصى حدود الصوت ومن يهمس في أذن جار أو صديق·
 
ولعل أبرز مظاهر الشارع، التي لم تتغير منذ أول يوم أقمنا فيه، وكان ذلك قبل سنوات مضت، صوت مذياع (المُصَََََلِّح) خميس الذي لا يكف عن الانتقال من محطة إلى أخرى·· يتابع أخبار الحروب والاقتتال في أكثر من جهة ومكان!
 
ولا شيء في وجوه السكان، والباعة، والحرفيين يدل على تَعَرُّض حارة شارع طوبان لما تعرضت له معظم أحياء المدينة والمناطق المحيطة بها، وبدا الشارع وكأنه كان بعيدا عن حملة الاعتقالات تلك! ولولا الملصقات التي ملأت الجدران على غرار معظم أحياء المدينة، التي وجد بعضهم فيها مادة لتزيين واجهات محلاتهم إلى جانب صور المطربين والممثلين، دون الاهتمام بما تحمله من رسالة·· لولا ذلك لظن المرء أنه في مكان آخر بعيد عن ما أصاب الناس وحل بهم من رعب وخوف·
 
وكنت أتوقع سماع الخبر على لسان من أعرف ومن لا أعرف، ولكن ما رأيته لا يختلف كثيرا عن المشهد الذي كان عليه الشارع يوم تحركت الشاحنة التي نقلتنا وحملت متاعنا إلى مدينة الصفيح· فلا شيء فـي وجوه السكان، والباعة، والحرفيين يشي بتعرض الحارة لما أصاب معظم الأحياء·
 
وسألت عن عثمان الترزي ولم أجده، وقال لي صبي البقالة إن (معلمه) سيتأخر قليلا· قررت انتظار سليم البقال: أعرفه أكثر من غيره·
 
طلبت الشاي بالحليب بعد أن جلست على مصطبة أصبحت بالية منذ آخر عهدي بها·· تابعتُ صخب الباعة، ونزق الحمالين، ولفت انتباهي الحلاق المجنون (حسون) الذي ترك زبونا لم يكمل حلق ذقنه، ووقف يحذر الناس بأعلى صوته، وهو يهز يده بعنف ملوحا بموسى الحلاقة، من تصديق الافتراءات والأكاذيب التي تطلقها (راديو) الـمُصلِّح خميس عن نزول (الكفرة) على سطح القمر!

الصفحات