تدخل رواية "حز القيد" في جنبات حياة الإنسان، كما تدخل خيوط النور خلسة بين فتحات الشبابيك..
أنت هنا
قراءة كتاب حز القيد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
ولأن العسكر أحكموا تطويق البيت بطريقة يتعذر على أحد الخروج منه دون أن يُشَاهد، جن جنون قائد الفرقة المكلفة بالمهمة، وطلب من العسكر تفتيش كل قطعة وزاوية في الغرفة حتى عثر أحدهم على سجادة صغيرة على الأرض تحت السرير تغطي لوح خشب· وعندما رفعوا لوح الخشب وجدوا أسفله فتحة نفق تحت الأرض يمتد إلى بيت مهجور بجوار بيت سعد·
لم يكن النفق عريضا، ولكن كانت له جيوب جانبية عثر بداخلها على أسلحة وذخائر وأجهزة اتصالات وآلات طباعة ومنشورات· بيد أن العسكر لم يكتفوا بأخذ ما وجدوه في النفق وإنما اعتقلوا زوجته أيضا· بعض الناس قالوا إنها كانت متورطة معهم، في حين أكد آخرون، ممن على اطّلاع بأساليب أجهزة الاستخبارات في التعامل مع المعارضين، أنهم أخذوها رهينة للضغط على سعد وإجباره على تسليم نفسه!
كبر سعد·· كبر في عيون أهله، وكبر في عيون أُسر المعتقلين الذين وجدوا في قصصه، الواقع منها والمتخيل، ما يعينهم على فراق أبنائهم وربما فقدهم· فلا أحد كان يعرف مصيرهم، والى أين أخذوهم؟ وهل سيحاكمون علنا؟ وهل سيسمح لهم بتوكيل محامين للدفاع عنهم؟
***
لم تكن قحطين ـ رغم العزلة التي فرضتها اعتبارات كثيرة·· لعل أهمها البعد الجغرافي والحروب الأهلية الصغيرة، التي كانت تدور هنا وهناك، على حداثة تاريخها ولأسباب كثيرة ومختلفة ـ لم تكن بمعزل عن ما كان يدور في محيطها الجغرافي! كانت المنطقة كلها تعيش تحولات جذرية بعد أن أصبحت بسبب موقعها الاستراتيجي، الذي تعزز أكثر فأكثر في السنوات الأخيرة، وثرواتها الطبيعية، محط أنظار القوى الكبرى وميدان صراع تجاذبات إقليمية ودولية!
وقد كثرت الانقلابات والثورات، ومثلما تعددت وجوه الانقلابين والثوريين، تعددت أسبابهم وأساليبهم للوصول إلى كراسي السلطة·· منها ما كان سلميا ومنها ما أريقت فيها الدماء·· بعضها بدوافع لا يشك أحد في نبل أهدافها ووطنيتها، وأخرى مَرَدُّها أحقاد وأطماع شخصية وفئوية ضيقة·
***
لم يثر خبرٌ نقلته أم زيد عن اعتقال امرأة من شارع (طوبان) انتباهي في بادىء الأمر، فهي ليست أول امرأة تعتقل ولن تكون الأخيرة· وكونها من سكان حارة شارع طوبان، فذلك لا يثير الانتباه ولا يعني شيئا، فالحارة كبيرة ونساؤها كثر·
أما عندما بدأت جارتنا العجوز تتحدث عن سلوك المرأة وذكرت شيئا عن الشبهات الأخلاقية التي كانت تدور حولها·· حينئذ فقط أصبح الخبر غير عادي بالنسبة لي، وكان من الطبيعي أن أربط ما قالته أم زيد بتلك المرأة صاحبة الدار المشبوهة في المدخل الجنوبي لشارع طوبان·
حدود فضولي لم يقف عند الإصغاء لأم زيد باهتمام وهي تسرد الخبر وتُعقٍّب عليه كلما سألت أمي أو قطعت حديثها، وأنا الذي ما كنت أبذل جهدا لمداراة ضيقي وكبت خنقي من حضورها، ولم اكتفِ بما قالته لنا عن تلك المرأة، وإنما طرحت عليها عدة أسئلة عن مصدر الخبر وكيف آل إليها·· الأمر الذي أبهجها وفتح شهيتها للحديث أكثر فأكثر·
شغل ذلك الخبر تفكيري كله· فعلى حين غرة هاجت بي الذكريات لاستحضار صور أيام مضت·· اعتقدت أن الزمن غيَّبها وداست على ملامحها السنون· كان ذلك قبل بضع سنوات، حين كنا نقيم في شارع طوبان القريب من وسط المدينة· رأيتها ذات مساء·· لم تكن كغيرها من نساء المدينة: قامة هيفاء تمتشق الهواء كعمود مرمر·· قمحية البشرة·· عسلية العينين، وشـعر بلون الظلام، تركت ضفائر، جزء منه يتطاير في الهواء من تحت غطاء رأسها·· في إشارة تدل على تمرد نفس لم تجد شيئا غير ذلك للتعبير عن رفضها لواقع لا تعترف بنواميسه!
وفي المرات القليلة التي تخرج فيها من منزلها إلى دكان البقالة·· تجر خلفها خادمها، تصاب حركة الشارع باضطراب حين تباغت أنوثتها فحولة الرجال·· كل الرجال حتى أولئك الذين يتظاهرون بالورع، ويغضون البصر تكلفا، كانوا يقفون عاجزين أمام انفلات رغبات تعذر عليهم لجمها لاختلاس نظرات تنتزعها قسرا مكامن الفتنة في كل زاوية من جسدها وبروز·· مفاتن تذيب الوقار في عيون كل الرجال·· لا فرق بين تقي وشقي!
وعرفت أنها امرأة لعوب تعيش حياة فسوق ومجون، وتحوم حولها الإشاعات وتلوك سيرتها الألسن· قال عنها عثمان الترزي إنها بائعة هوى، وأكد سليم البقال أنها تنظم جلسات قمار وتبيع الخمور·
كل له قصة، وكل حكاية عن حكاية تختلف·· بعضها مبتدع وأخرى وجيهة، مردها الشكوك والريبة حول ما يدور داخل البيت المشبوه، حيث يخيم الهدوء في النهار على البيت وسكانه، وفي الليل تزداد الحركة بين بابه والزقاق المقابل له: أشباح ملثمة ـ رجال ونساء ـ تهرول إذا دخلت وتهرول إذا خرجت·· صخب ومرج·· تتداخل ضحكات خليعة وتأوهات وأصوات غناء هابط!


