أنت هنا

قراءة كتاب الخريف يأتي مع صفاء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الخريف يأتي مع صفاء

الخريف يأتي مع صفاء

الخريف يأتي مع صفاء ليست رواية للتأريخ، بل هي موقف منه· ولو كان بعض أهل الجنوب والغرب وغيرهم يشعرون بالتهميش من الشمال، سياسة وأدباً، فإن أحمد الملك بموقفه القومي الواضح قد اختصر الكثير من الظلامات الإنسانية· وموقفه النبيل يلخص التجرد المطلوب من كل أهل الأد

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
أحمد الملك والواقعية السحرية
 
بقلم : د· الصاوي يوسف
 
بعد أكثر من عشر سنوات من نشر روايته الأولى الفرقة الموسيقية يبدو أن أحمد الملك قد وجد المعادلة المثلى بين العبارات المكثفة المقصودة لذاتها، وبين خيط الأحدوثة الذي يتابعه القارئ بوضوح من بداية الرواية حتي نهايتها· فالعبارة عند أحمد الملك تبدو كأنها تعبير عن موقف أسطوري مليء بالسخرية والمرارة، بمعزل عن سياق القص التقليدي، المعروف في أسلوب الحواديت· كلماته يأخذ بعضها برقاب بعض، تتكرر كثيراً لا لتوضيح المعني بل لتكثيف الرمز· حتى أن القارئ كثيرا ما يشعر أنه قد قرأ هذا النص من قبل في مكان ما، وإن بلغة أخرى· ولكن ما يسهل كثيراً علي القارئ - خصوصاً السوداني- أن رموز أحمد الملك ولغته المبتكرة تستند علي إرث اسطوري وفلكلوري ثر، من ثقافات أهل السودان، قديمه ووسيطه، جنوبه وغربه وشماله وشرقه، فأنت في روايات أحمد الملك تسير ليس فقط عبر فضاء الرواية الزمني، بل أيضاً عبر الأمكنة الموغلة في الواقعية، أمكنة معروفة وشبه معروفة، تعج بأشجار وأطيار وناس تعرفهم بأسمائهم وصفاتهم، وربما بأشخاصهم لحماً ودماً ·
 
وقد كانت لغة أحمد الملك تذكرني بواقعية ماركيز السحرية والشعرية، وتعابيره المفاجئة، المبتكرة، غير المتوقعة في سياقها، تجعلك تغرق في عالم أسطوري شعري، لا هو بالواقع المسطح الذي نعيشه، ولا هو بالخيال الأسطوري الشاطح في متاهات غير المعقول· إنه خليط من هذا وذاك، اكتشاف لطرق وعرة مجهولة (ومأهولة) في غابات إفريقيا وصحاريها ووديانها· أم هي يا تري غابات هذا المجتمع المتشابك المتنوع المتصارع ؟ مجتمع تسحقه الدكتاتوريات العسكرية، وعظمة قادتها المتوهمة والمتآكلة مع مرور الزمان· مجتمع تلوكه الحرب الأهلية بين أضراسها، وتلفظه بقايا محطمة، بينها صراعات صغيرة وكبيرة لم تزل تنتظر دورها في التسوية ·
 
ويبدو أن أحمد الملك قد وجد ضالته المنشودة في واقع أقرب الي الخيال- بل احياناً أغرب من الخيال - في فترة من تأريخ السودان مغرقة في الظلم والظلامية· ولعل الكثيرين من قراء أحمد الملك سيظنون أن شخصية المشير الفاقد للذاكرة هي من صنع الخيال، في حين أن الكثير من السودانيين سيكتمون ضحكات الشماتة وهم يرون مصير المشير، المعتوه، المثير للشفقة· فهم يعرفون المشير حقاً، وهو ما زال بينهم، ليس فقط بلحمه ودمه، وإنما أيضاً بآثاره وما صنعت يداه في البلاد، مما لن يزول في المستقبل المنظور، رغم زوال اسطورة المشير الظافر المنتصر أبدا ·
 
ولكن أحمد الملك نجح بشكل ما في نسج زمان خاص به، يضع في إطاره تلك العجينة العجيبة الثرة، من أشخاص وأحداث عهد المشير· وهو امتلك مقدرة فذة في الإمساك بمفاصل الشخوص والأحداث، وتحريكها بمهارة· ولعله قد تلاعب بها عمداً، ربما انتقاماً من كل ما مثله المشير، من طغيان وتلاعب بمصير البشر· وربما توسيعاً لأفق الرواية حتى تستوعب كل العقداء والعمداء والألوية والفرقاء والمشيرين اللذين وضع الزمان بين أيديهم سلاحاً ورتبة فما استخدموها حين استخدموها إلا ضد شعوبهم المقهورة المسحوقة ·
 
ولفت نظري في هذه الرواية العنصر الجديد تماماً، ذلك الجانب الذي لم يعرفه الناس عن حياة المشير، أي دور الدكتورة صفاء والأميرة مينيساري في حياته، وبالتالي حياة شعبه ومن حوله· ولعل أحمد الملك كروائي رأي أن يطعّم جفاف عهد المشير، الذي انعكس جفافاً على أحداث الرواية، ببعض الندى والنكهة· فخلق بذلك عالما أكثر إثارة وشاعرية· وليس جديداً علي أحمد الملك امتلاكه لكل أدوات الصناعة الروائية· مما ذكره الدكتور بشري الفاضل في مقدمته التي كتبها لرواية الفرقة الموسيقية لأحمد الملك· ولذلك جاءت صفاء قمة جديدة من قمم النضج الفني، لدى شاب نشأ في عهد المشير، ثم ما كاد أن يبدأ رحلته الأدبية حتي تلقفه عهد العميد ثم عهد الفريق، وها هو في المنفي أكثر ارتباطاً بقضايا شعبه، بل بأعمق الجذور الثقافية والأسطورية والفلكلورية، لذلك الشعب الغني بالإبداع·
 
الخريف يأتي مع صفاء ليست رواية للتأريخ، بل هي موقف منه· ولو كان بعض أهل الجنوب والغرب وغيرهم يشعرون بالتهميش من الشمال، سياسة وأدباً، فإن أحمد الملك بموقفه القومي الواضح قد اختصر الكثير من الظلامات الإنسانية· وموقفه النبيل يلخص التجرد المطلوب من كل أهل الأدب والثقافة، بل كل فئات المجتمع، في النفاذ إلى روح هذا المجتمع، التي تكونت عبر العصور، عبر التعايش والتثاقف، لا الصراع الدموي ·
 
تلك الروح القومية، المتوحدة والمتناغمة، والإنسانية، هي النداء الذي يخرج به قارئ أحمد الملك من هذه الرواية ·
 
د· الصاوي يوسف
 
كاتب سوداني - كولمبورخ 01-9-2002

الصفحات