أنت هنا

قراءة كتاب باب العامود

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
باب العامود

باب العامود

المجموعة القصصية "باب العامود" للكاتب سمير الجندي، احتوت على ستّ وعشرين قصة، خطها الكاتب بقلمه المقدسي، راسمًا في كل منها لوحة تصور ملحمة الأرض والإنسان.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 2
درجات باب العامود
 
كدت أتنازل عن عادتي التي اكتسبتها من أمي، تلك العادة التي شربتها يومًا بعد يوم مع عشقي المتوالي للتجوال في البلدة القديمة. أذكر كيف كنت أعد درجات باب العامود درجة درجة. حفظتها غيبًا. تعرفت إلى مزايا كل واحدة منها، حتى أنني عرفت أسماء بائعات الخضار اللواتي يأتين من القرى المحيطة بالمدينة، وحفظت أسمائهن عن ظهر قلب. لا تنتظروا مني البوح بأسمائهن، فأمي حذرتني من البوح. قالت لي، ولن أنسى مقولتها تلك أبدًا: "احذرْ يا بنيّ من البوح بأسماء من تحب".
 
كانت درجات باب العامود تستوعب كل القلوب والأسماء والعيون، ولكنها ضاقت تمامًا عن استيعاب بساطيرهم. لم تحتمل نجاستهم. اشمأزّت من رائحة حقدهم المتوارث.
 
كنت أسمّي كل درجة من الدرجات باسم البائعة التي تجلس عليها. كن يجلسن موزعات كفرقة عزف كلاسيكية، تُشكلن لوحة سريالية بألوان فاقت إبداعات (دالي). كن يوزعن رائحة الخضار والفاكهة على عشاق المدينة بنسق دقيق، ويتعاملن مع السماء والهواء وعصافير الدوري بانسجام رائع، إلا أن أصحاب العيون الرمادية الحاقدة لا يعجبهم هذا الانسجام، ولا ذلك العزف الجميل؛ أخذوا يسحقون ببساطير الحقد كل الألوان، لتمتزج ألوان اللوحة تحت نعالهم فتصير لونًا واحدًا هو اللون الأسود.
 
هالني ما رأيت صباح ذلك اليوم. سحقتني دموع البائعات، ومزّقني قهر الرجال. تركت البائعات أماكنهن، وتقوقعن مرتجفات في زاوية السور كمن يحتمي بحضن أمٍّ حنون، لا حول لهن ولا قوة. يومها قررت الكف عن التجوال في المدينة، وقررت وداع الدرجات وداعًا تملؤه الحسرة.
 
لملمت أعصابي، وحملت جميع متاعبي، وسرتُ، دون أن ألتفت خلفي، باتجاه حوش البسطامي. صعدت سلم البيت، واستلقيت على سريري المتواضع. كان الألم فظيعًا لأنني لا أعرف له موضعًا، فقد توزع على مساحات نفسي.
 
استيقظت في الصباح على صوت بائع الصحف معلنًا عن خبر جعلني أقفز عن السرير على أمل الحصول على صحيفة قبل نفادها. لقد رمم الخبر ما تهتك من نفسي المحطمة، وشفى قهري.
 
ارتديت ما كان في متناولي من ملابس، وهرولت مسرعًا إلى درجات باب العامود. تفقدتها درجة درجة، وبائعة بائعة، حتى وصلت إلى درجة كانت الصحيفة موضوعة فوقها بعناية وعليها حزمة ياسمين مقدسي، تلك هي درجة فاطمة.. الآن أستطيع البوح باسمها.

الصفحات