أنت هنا

قراءة كتاب باب العامود

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
باب العامود

باب العامود

المجموعة القصصية "باب العامود" للكاتب سمير الجندي، احتوت على ستّ وعشرين قصة، خطها الكاتب بقلمه المقدسي، راسمًا في كل منها لوحة تصور ملحمة الأرض والإنسان.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 6
أبونا عيسى
 
أبونا عيسى، رجل عليه وقار السنين، قد عبثت خطوط الزمن بوجهه ويديه اللتين تقبضان بعزم على مقبض عصاه التي يتوكأ عليها بغدوه ورواحه. وجهه مشرق كإصباح بئر زيت؛ تلك القرية التي أخلص أبونا عيسى في حبها، فلم يغادرها إلا في رحلاته الإيمانية إلى القدس، يزور فيها كنيسة القيامة، ويؤدي واجباته الدينية، ويقفل راجعًا إلى خربة بئر زيت، كأنه قطع عهدًا أبديًّا مع تراب أرضه الأحمر.
 
كان يجلس على ركبتيه، يعالج نبتاته برقةٍ اكتسبها من نسمات نيسان التي تهفهف على أشجار اللوز والرمان، وتداعب أغصان الصنوبر العالية. من هناك، من فوق رابيته، يطل علينا من البعيد البعيد بحر يافا بمائه الأزرق الصافي كالكريستال التشيكي الأزرق، والذي يبعثر ألوان الطيف بطريقته الفوضوية المحببة.
 
كان يجلس بين شجيرات الفول بنوعيه، ذات القرن الطويل وذات القرن القصير، وبين شجيرات البازيلاء الخضراء التي يشبه مذاقها العسل من شدة حلاوتها.
 
كانت لحيته البيضاء الناصعة، والتي تتدلى حتى منتصف صدره، تتثاءب بدلال كلما لامستها نسمة هواء مشاكسة. ابتسم لنا أبونا عيسى عندما حييناه. دمعت عيناه كجدول ماء يسير بين ظلال سنابل خضراء ملأى بالحبوب عندما عرف أننا من القدس وجئنا لزيارة ريفنا الجميل. دعانا لشرب الشاي، وأجلسنا على مقعد خشبي قديم يذكرني بمقاعد الدراسة الابتدائية. بدأ يحدثنا عن حبه لأرضه التي لا تزيد مساحتها عن عشر قامات طولاً وعرضًا. يصرّ على زراعتها في كل المواسم بالزيتون، والتفاح، والعنب، وبالبقول من فول، وحمص، وبازيلاء، كما زرع بعض شتلات من البندورة والخيار والكوسا. يقضي نهاره بين نبتاته، وتراب أرضه الأحمر. رفيقته العصا وكنّته التي لم تنجب له الأحفاد بسبب عقم الزوج. المرأة التي ارتسمت على محياها سعادة العمل بجانب حَماها الخوري الجليل، الذي يشفق عليها كما يشفق على تراب أرضه من عبث العابثين، ذئاب الأرض الطامعين، الذين يحاولون النيل من كل بقعة متروكة. أبونا عيسى لم يترك أرضه يومًا واحدًا، ولم تتركه أرضه. فيها كل ما يريد من محبة، وثراء، وبهجة، وراحة بال، وفيها أحلامه تنضج يومًا بعد يوم، وفيها عزيمته وقوته وحياته، وفيها للشمس معنى الحياة، وفيها يتعانق الأفق مع الغروب، وفيها تتسامر الطيور فوق الأفنان، وفيها أبونا عيسى يبتسم ابتسامة عريضة تتسع لكل الآمال، وفيها تتحطم كل الأطماع، وتختفي كل الجدران.

الصفحات