أنت هنا

قراءة كتاب أسس الفكر القومي العربي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أسس الفكر القومي العربي

أسس الفكر القومي العربي

بدأت فكرة هذا الكتاب من ضرورة تجميع نصوص مختارة لكتاب قوميين تعرّف الشباب العربي بالفكرة القومية العربية ومعناها وأسسها. ما هي القومية العربية؟ وما هو الوعي القومي؟ ومن هم بعض أهم الكتاب القوميين الذين أسسوا الفكر القومي العربي أو أثروه؟

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
الصفحة رقم: 10
قلنا إن هذه الديانات تسعى إلى خلق نوع من الجو الأممي الذي يجمع مختلف الأقوام، ويغمرها غمراً. ولكن، يجب علينا أن نتساءل: هل نجحت الأديان العالمية التي ذكرناها في ما كانت تنزع إليه في هذا الصدد؟ وهل أوجدت بهذه الصورة رابطة أقوى وأعم من الروابط القومية الأخرى؟
 
إنَّ التاريخ يشهد على عكس ذلك تماماً: إن الأديان العالمية لم تنجح في ذلك، إلا داخل نطاق محدود، لمدة قصيرة جداً. إنها لم تستطع أن تمزج الأقوام مزجاً حقيقياً، وأن تزيل الفوارق التي تميز بعض أولئك الأقوام من بعض تماماً، إلا بقدر ما نجحت في نشر لغة من اللغات، وبقدر ما أوجدت من التبدل في حدود القوميات.
 
فالديانة المسيحية مثلاً، حاولت أن تشمل العالم بأجمعه، ومع هذا، فإنها لم تحل دون تفرق المسيحيين أنفسهم إلى أمم ودول عديدة، ودون تخاصم وتحارب هذه الأمم والدول في ما بينها.
 
وكذلك الأمر في الإسلام؛ من المعلوم أن الدعوة الإسلامية أيضاً سعت إلى جمع الأنام تحت راية القرآن الكريم، ولكن التاريخ يشهد على أن المسلمين أنفسهم لم يبقوا متحدين تماماً، إلا لمدة محدودة جداً، وأن انتشار الإسلام لم يحل دون تفرق المسلمين إلى أمم ودول، ودون حدوث منازعات ومخاصمات بين الدول الإسلامية نفسها.
 
ذلك أن المبادئ النظرية شيء، والحقائق الراهنة شيء آخر؛ وما يرد في التعاليم الدينية شيء، وما يتحقق في الحياة الاجتماعية شيء آخر. والأديان العالمية لم تستطع أن توحد القوميات، حتى في الأدوار التي وصلت سلطتها خلالها إلى أقصى الدرجات.
 
ولا غرابة في ذلك أبداً، لأن الأديان نفسها كثيراً ما تتفرق إلى مذاهب متنوعة. والقوميات المختلفة كثيراً ما تجد في الاختلافات المذهبية سبيلاً للحفاظ على كيانها، على الرغم من الجو الأممي الذي تخلقه الأديان العالمية، وذلك عن طريق اعتناق مذهب جديد، وحمل راية مذهب خاص.
 
زد على ذلك أن الدين، ولو كان أمراً باطنياً في حد ذاته، فإنه لا يخلو من المظاهر الخارجية، ولا يستغني عن الوسائط المادية، فيُخضع ذلك لقوانين الحياة الاجتماعية، كما يتضح من التفاصيل التالية:
 
أولاً: إن التعاليم الدينية تستمد قوتها من كتاب خاص، وهذا الكتاب إنما يكون بلغة من اللغات.
 
ثانياً: هذه التعاليم تفرض بعض الطقوس والصلوات، وهذه أيضاً إنما تكون بلغة من اللغات.
 
ثالثاً: إن الأديان تتطلب تشييد بعض المعابد والمباني لإقامة شعائر الدين. وهذه المعابد لا بد أن يتولى شؤونها بعض الرجال، وهؤلاء الرجال إنما يتكلمون بلغة من اللغات، وينتسبون إلى أمة من الأمم.
 
يظهر من ذلك كله أن للدين علاقةً قويةً باللغة، فإن كل دين من الأديان يقوم على لغة، ويعمل بطبيعته على نشر تلك اللغة. إن اللاتينية انتشرت بواسطة الديانة المسيحية أكثر مما انتشرت بواسطة الفتوحات الرومانية، واللغة العربية انتشرت بواسطة الدين الإسلامي، أكثر مما انتشرت بحكم السياسة والإدارة.
 
ومما يظهر علاقة الدين باللغة بوضوح أعظم، أن اللغة عندما تأخذ في التلاشي وتسير نحو الاندراس، تاركةً محلها للغة عامية متفرعة منها، أو للغة أجنبية متغلبة عليها، تجد لنفسها ملجأً أخيراً في المعابد وفي الطقوس الدينية والصلوات. فإن اللغة اللاتينية مثلاً، ما تزال تُردَّد وترتل في الكنائس الكاثوليكية خلال الطقوس الدينية، مع أنها قد خرجت عن نطاق تخاطب الناس، ودخلت في عداد اللغات الميتة منذ عدة قرون، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللغة السريانية.
 
ولذلك نستطيع أن نقول: إن الدين إذا اتحد مع لغة من اللغات قوَّى جذور تلك اللغة وحافظ على كيانها، أكثر من جميع العوامل الاجتماعية الأخرى.
 
ومما يلاحظ في سير الوقائع التاريخية، أن الديانة عندما تتفرع إلى مذاهب عديدة، قد تربط مقدرات بعض هذه المذاهب ببعض اللغات بوجه خاص. وتنتشر اللغة المذكورة مع انتشار المذهب الذي تبناها، وتتوسع سيطرة الأمة التي كانت الصاحبة الأصلية للغة المذكورة بفضل هذا الانتشار. فإن الإمبراطورية الرومانية، مثلاً، عندما انشطرت إلى غربية وشرقية، تمذهب كل شطر منها بمذهب مسيحي خاص، وارتبط بلغة خاصة: إن الإمبراطورية الغربية صارت حامية الكاثوليكية، واتخذت اللاتينية لغة لسياستها ولديانتها، بينما الإمبراطورية الشرقية تبنت المذهب الأرثوذكسي، واتخذت اليونانية لغة لسياستها وديانتها، فتقوّى نفوذ اللاتينية بفضل الكاثوليكية، كما أن نفوذ اليونانية انتشر وتقوّى بفضل الأرثوذكسية.
 
وقد حدث ما يشبه ذلك عند ظهور المذهب البروتستانتي أيضاً: فإن الإصلاح الديني الذي بشر به ودعا إليه لوثر الشهير، لم يكتفِ بإحداث انقلاب مذهبي خطير فحسب، بل أوجد – بجانب هذا الانقلاب المذهبي – انقلاباً سياسياً واجتماعياً خطيراً، لأنَّ الكاثوليكية كانت قد أبقت الإنجيل باللغة اللاتينية وحدها، وجعلت اللاتينية لغة الصلوات كلها. ولكن لوثر حينما ثار على الكاثوليكية – وعلى البابوية التي تمثلها – قائلاً بضرورة ترجمة الإنجيل إلى اللغات المحلية ليتمكن الناس من قراءته وفهمه مباشرة، قد أحدث انقلاباً قومياً في ظل الانقلاب الديني الذي جهر به ودعا إليه، لأنه وضع بذلك حداً لسيطرة اللغة اللاتينية – التي كانت قائمة في أوروبا الغربية على معنوية الإنجيل وسلطته – كما أنه قضى قضاءً مبرماً على نفوذ الأمم اللاتينية، ذلك النفوذ الذي كان يستمد قوته من لغة الصلوات الدينية، وطبيعة التشكيلات البابوية، وفسح بكل ذلك مجالاً واسعاً لجعل المذاهب والكنائس قومية بكل معنى الكلمة.
 
ومما يبرهن على ذلك برهنة قطعية، ما حدث فعلاً بعد الحروب المذهبية التي استمرت عقوداً طويلة من السنين. فإن الأمم التي كانت تتكلم باللغات اللاتينية، حافظت على كثلكتها، وأعرضت عن المذهب البروتستانتي الجديد، في حين أن الأمم الجرمانية والأنكلوساكسونية أقبلت، بعكس ذلك، على المذهب الجديد إقبالاً عظيماً، ولم يشذ عن هذا التيار من الطرفين إلا جماعات قليلة جداً.

الصفحات