تصنف هذه الرحلة في عداد الرحلات الدبلوماسية، ومؤلفها صادق باشا المؤيد العظم شخصية عثمانية معروفة، قام برحلته إلى الحبشة في ربيع وصيف سنة 1896 موفداً من قبل السلطان عبد الحميد، ومعه رسالة إلى النجاشي منليك الثاني امبراطور الحبشة الذي استقبله في بلاطه بحفاوة
أنت هنا
قراءة كتاب رحلة الحبشة - من الأستانة إلى أديس أبابا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
رحلة الحبشة - من الأستانة إلى أديس أبابا
الصفحة رقم: 5
III
دوَّن الكاتبُ وقائع رحلته وما حفلت به من أحداث ومشاهدات يوماً بيوم، وبالتالي فهي تشبه في ترتيبها المذكرات اليومية، ولم يهمل الكاتب يوماً ولم يدوّن فيه ما شاهده وسمعه وقرأه ووقَعَ له، حتى ليخيل إلينا أن الكاتب لا هم له أكبر من تدوين الرحلة· والواقع أن صادق باشا العظم يفصح هنا عن كاتب رحلة محترف، ورحلته هذه تضعه في مصاف كبار كتابها العرب والأجانب، لما يتميّز به من دقَّة في التعبير، وأمانة في النقل، ورهافة في وصف المشاهد، وذكاء في قراءة الظواهر، وبساطة في اللغة، وطلاوة في العبارة، وطرافة في التعليق· فهو يذكر بعناية كبيرة الأمكنة، ومحطات التوقف، ودرجات الحرارة والمواقيت، كأن يقول مثلاً: وفي الساعة السادسة وخمس دقائق إفرنجية مررنا بجزيرة كابري قادمين من نابولي؛ أو: نحن الآن على ارتفاع 0 0 5 1 قدم عن سطح البحر، إلى جانب التقاطاته اللمَّاحة في أمور ومسائل شتى تتصل بالناس والسلوك والعلاقة مع البيئة· وفي كل مكان يحلُّ رحالتنا فيه، تراه يدون مشاهداته وانطباعاته على مستويين أساسيين: أولاً: يوميات البعثة من حل وترحال، واستكشاف للطرق بين المدن والحصون والمواقع، والوقائع اليومية للمسافرين، وما يواجههم من متاعب ومشاق ونجاح وإخفاق ومفارقات خلال السفر·
وثانياً: نقل الصور والمشاهدات والظواهر على خلفية متصلة من حوادث الطبيعة، واختلاف الجو، وتبدل المناظر التي لا تتوقف عن مدّ الرحلة بعالم من الجمال الطبيعي، يسوده اختلاف الطقس بين وادٍ وجبل، وبين ساحل وقفرٍ، وتفاوت المناخ· وهو إلى هذا وذاك يرسم ملامح وصفية للناس تكاد تكون قطعاً أدبية ملهمة، ويورد أخباراً تتعلق بالمكان وحاضره وماضيه استقاها من السكان وتعليقاتهم، كاشفاً عن قدرة كبيرة على شبك خيوط السرد بالوصف والمقارنة، والاسترجاع والتسجيل والتحليل بكثير من الدقّة والسلاسة، تاركاً لنا أن نتتبع ساعة بساعة ويوماً بيوم مسير قافلته في عالم لم نألفه، ولا قبل لنا به· ومن أول ورقةٍ في الرحلة إلى ختامها، يبدو العظم لنا مشاهداً يتأمل وينصت ويدون بسرعة بديهة، وخبرة في الكتابة لافتة، لا يضير صاحبها أن يكشف عن جهله بأمر، مادام في دور المستكشف، أو أن يسخر من خرافة أو مفارقة مادام في وضع من يحتكم إلى العقل· وهو يفعل ذلك بلغة أنيقة مقتصدة وجذابة·
وتكشف تعليقاته عن نفس ذات نزعة إنسانية لا يتناهى إليها تعصب لجنس أو دين أو ثقافة، فنراه لا يكتفي بأن تلفت انتباهه الظواهر والمواقف والحالات الغريبة المفاجئة، بل وحتى الأشياء البسيطة والجميلة المؤثرة· فالمرأة تحت المظلة تتخذ لها في سطوره حضوراً شاعرياً، والأزهار الغريبة تبلغ عينه المتجولة باندهاش، كأن يقول: ورأيت وقت إذٍ نوعاً من القرنفل المطبَّق لم تر عيني مثله قط! والحق أن العظم يتصرف كعاشق مولع بالنبات· ولا نكتفي بأن نشير إلى براعته في حياكة النسيج الذي يؤلف الرحلة، بل نشير أيضاً إلى لطف الاستطراد لديه، وخفة الانتقال من موضوع إلى آخر، ومن إيراد حادثة إلى سرد أخرى، من دون حشوٍ ولا إملال· وتكشف هذه الرحلة عن مستوى رفيع من ثقافة صاحبها، فهو لا يهمل، مثلاً، أن يعقد الصلة بين المكان والأدب، ففي طريقه إلى مرسيليا يمر بجزيرة مونت كريستو، إذ ذاك نراه يشير إلى أن الكسندر دوماس اتخذها موضوعاً لإحدى قصصه الشهيرة· وهو أحياناً قليلة نراه يخبر عن نفسه، إنما بموضوعية وتواضع في مناسبة تتعلق بحدث أو مكان، أو تجربة تستدعي خبرة سابقة·
وفي ما يتعلق بالآراء والأفكار التي يفصح عنها صاحب الرحلة، فنحن قلما وجدناه يتناول موضوعه من خارجٍ، أو يستعمل ما يعرض له ليؤكد فكرة مسبقة، أو يروج لموقف· فهو إذ يثني على مهارة البحارة العرب في الشدائد والملمات وتفضيل الأوروبيين لهم على غيرهم من البحارة، فلكونه رآهم يتصرفون بسرعة بديهة وذكاء فطري وخبرة مديدة، وهو ما يفسر اعتمادهم من قبل البحرية المتصلة بشواطئ الرحلة· وإذ يمتدح مسلكاً في شخص أو جماعة، فلكونه يرى في ذلك إنصافاً· وعندما يمتدح مسلك القناصل الأوروبيين الذين استضافوه على طول خط الرحلة، فلأنه يرى في هذا مسلكاً تقتضيه اللباقة الدبلوماسية، بصرف النظر عن موقفه الرسمي من الصراع بين الآستانة وأوروبا·
وربما بسبب من دبلوماسية الرجل لم نلاحظ في خطابه أي إفصاح عن موقف خاص من الظاهرة الاستعمارية الغربية في أفريقيا، على رغم أن الرحالة يورد معلومات جمة عن أوضاع الإنجليز والفرنسيين والطليان وتحركاتهم في المنطقة يوم ذاك، في ظل الصراعات على النفوذ والثروات، التي كانت دائرة ما بين القوى المذكورة من جهة، وبينها مجتمعة وبين السلطنة العثمانية·