تصنف هذه الرحلة في عداد الرحلات الدبلوماسية، ومؤلفها صادق باشا المؤيد العظم شخصية عثمانية معروفة، قام برحلته إلى الحبشة في ربيع وصيف سنة 1896 موفداً من قبل السلطان عبد الحميد، ومعه رسالة إلى النجاشي منليك الثاني امبراطور الحبشة الذي استقبله في بلاطه بحفاوة
أنت هنا
قراءة كتاب رحلة الحبشة - من الأستانة إلى أديس أبابا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
رحلة الحبشة - من الأستانة إلى أديس أبابا
الصفحة رقم: 7
V
لم يهمل الرحالة خلال وقوفه على الأمكنة تفصيلاً يستلفت انتباهه، مهما كان صغيراً، إلا وتشاكل معه· فهو يصف كل ما راح يقع تحت نظره من بشر أو حيوان أو جماد، مستعرضاً ميزاته، ومعملاً المقارنة بينه وبين نظيره في أمكنة أخرى خبرها·
من هنا فإن وصفه يمكن أن يشكل وثيقة بالغة الأهمية لما كانت عليه الحال في الحبشة خلال نهاية القرن التاسع عشر· وهكذا تحضر المدن والجبال والقرى والغابات والأنهار بطبيعتها وحيوانها وعمرانها وناسها، والعادات والتقاليد والأزياء، ومظاهر السلوك العام والخاص، والطقوس والعادات الاجتماعية، فلا يترك العظم شاردةً أو واردة، إلا ويصورها، ويتتبع حياة الحيوان وسلوكه، وسلوك الناس نحوه، ويصف الشخصية الوطنية وطبيعة استجاباتها بإزاء الآخر المقيم في ظهرانيها، أو الغازي الأوروبي القادم من بعيد، وتداعيات هذه الشخصية بإزاء التطور الطارئ على البيئة بفعل الوجود الاستعماري وما حمله معه من مفردات العصرنة·
ولا يتركُ الرحالة أن يبدي دهشته وأسفه لأحوال النساء في تلك البلاد، وللحيف الواقع عليهن من جانب الرجل وثقافة المجتمع المفرط في ذكوريّته، فهو، هنا، على شيء كثير من النباهة في تأمل حال المرأة، والإشارة باستنكار إلى ما يحط من شأنها، ويقلل من مكانتها كمشاركة مبدعة في الوجود ولها كيان خلاق· لكنه لا ينسى أن يثني على همتها ونشاطها وكفاحها اليومي الصامت والسعيد، قياساً على خاملات القسطنطينية·
وعندما يصف السيدات الحبشيات، فهو في الوقت الذي يصف جمالهن الأخاذ ويحتفي بسمرتهن ودقَّة أنوفهن وبساطة مسلكهن، وتقشفهن، وانتمائهن الحي والأصيل إلى المكان، وإلى فكرة العمل والإنتاج، يكشف في الوقت نفسه عن وعي رفيع لفكرة الاختلاف الحضاري، فيرى في التصرفات والسلوكيات الخاصة بنساء الحبشة ميزات راقية·
والحق أن الموضوعية والأمانة والدقة التي يتحلى بها الكاتب، فضلاً عن الروح الإنسانية المتخفّفة من العقد، تمكن هذه الرحلة من أن تُتخذ كدليل بالغ الجودة بالنسبة إلى الرحالة والمسافرين إلى تلك الأنحاء، وإلى القراء الراغبين في معرفة جغرافية تلك البلاد وأحوالها معرفة لا تنشد إلا نفسها· والمؤلف نفسه أشار إلى ذلك عندما كتب يقول: رحلتي هذه أكتبها بطريقة تُمَكِّن السائح في تلك البلاد من اتخاذها كدليل له· ونحن نضيف، إلى هذا بأنها نص يقدم المعرفة بالمكان وإنسانه أقرب إلى الشمول·
فوصف الطبيعة، وعلاقة الإنسان بها يشغل حيزاً بارزاً من اهتمام المؤلف، وهي عنده طبيعة شاعرية أجمل حالاتها عندما تتيح للبشر أن يحضروا من خلال انسجامهم معها، فينقل إلينا حالته وهو ينصت إلى أصوات الطبيعية وحركاتها كأني به شاعراً متمرساً، أو رساماً مرهفاً يرسمُ·