يقدِّم جلعاد عتسمون سرداً شائقاً وآسراً لرحلته من قومي إسرائيلي متطرِّف إلى مواطن للإنسانية تجرَّد من الصهيونية، وبات مدافعاً متحمِّساً عن العدالة من أجل الشعب الفلسطيني· إنها قصّة تحوّل يرويها بنزاهة مطلقة، بحيث يتعيّن على كلّ أولئك (خصوصاً اليهود) المهتمّ
قراءة كتاب من التائه؟
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
لقد آمن جدّي بإحياء فَخار العِرْق اليهودي، وهو ما آمنتُ به أيضاً في نشأتي الأولى· على غرار أقراني، لم أرَ الفلسطينيين من حولي· لكنهم قطعاً كانوا هناك - فقد أصلحوا سيارة والدي لقاء نصف الثمن، كما شيَّدوا منازلنا، وأزالوا الفوضى التي خلّفناها وراءنا، وحملوا الصناديق في محل بيع الأطعمة في الجوار، لكنهم دائماً ما كانوا يختفون قبل غروب الشمس مباشرةً، ليظهروا ثانيةً قبل الفجر· لم نخالطهم أبداً، ولم نفهم حقاً من هم وما الذي يمثّلونه· لقد كان التفوّق مغروساً في أرواحنا، وكنّا ننظر إلى العالم من خلال منظار شوفيني عنصري، من دون أن نشعر بالخزي إزاء ذلك أيضاً·
في السابعة عشرة من عمري، كنتُ أستعدُّ لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الإسرائيلي· ولمّا كنتُ مراهقاً قويّ البنية مفعماً بالحماسة العسكرية، كان من المقرّر أن ألتحق بوحدة إنقاذ خاصة تابعة لسلاح الجو· لكن حدث ما هو غير متوقَّع· ففي برنامج لموسيقى الجاز كان يُبثّ في وقت متأخر في إحدى الليالي، استمعتُ إلى مقطوعاتٍ من ألبوم بيرْد(4) الذي يحمل الاسم تشارلي باركر وِذْ سْتْرينغْز(5)·
ذُهِلْت· كانت الموسيقى أكثر عضويةً وشاعريةً ووجدانيّة، وأكثر جموحاً من أي شيء آخر سمعتُه في حياتي· اعتاد والدي الاستماع إلى بيني غودمان(6) وآرتي شو(7)، وكلاهما موسيقي بارع يجيد العزف بالتأكيد على الكلارينِت، لكن بيرْد كان حكايةً أخرى مختلفة تماماً· فها هنا موسيقى استثنائية، حادّة، حسيّة، تفيض طاقةً وتعبيراً· صبيحة اليوم التالي تخلّفتُ عن الذهاب إلى المدرسة، وتوجهتُ إلى تسجيلات بيكاديلي، محلّ التسجيلات الموسيقية الأفضل في القدس· عثرتُ على قسم موسيقى الجاز، واشتريت كل ما لديهم من تسجيلات بيبوب(8)، التي لم تتجاوز الألبومين ربما· في الطريق إلى البيت على متن الحافلة، أدركتُ أن باركر رجل أسود فعلياً، وهو أمر لم يفاجئني تماماً، لكنه كان نوعاً من الكشْف· ففي عالمي، اليهود فقط هم الذين لهم علاقة بأي شيء جيد، لذا شكّل بيرْد بداية رحلة·
في ذلك الوقت، كنّا، أقراني وأنا، مقتنعين بأنّ اليهود هم حقاً الشعب المختار· لقد نشأ جيلي على النصر السحري لحرب الأيام الستة· كنّا واثقين تماماً من أنفسنا· ولأننا علمانيون، ربطنا كلَّ نجاح بخصائصنا كليّة القدرة· لم نؤمن بالتدخّل الإلهي، لكننا آمنّا بأنفسنا· لقد آمنّا أنّ قوّتنا نابعةٌ من الأرواح والأجساد العبرية التي تمّ بعثُها· من جانبهم، كان الفلسطينيون يخدموننا طائعين صاغرين، ولم يبدُ في حينه أن هذا الوضع قد يتغيّر؛ إذ لم يُظهروا إشاراتٍ حقيقيةً على المقاومة الجماعية· ولقد عزّزت الهجماتُ الإرهابية المزعومة، التي يشنّونها بصورة متفرِّقة، شعورَنا بأننا محقّون أخلاقياً، وجعلتْنا توّاقين للانتقام· بيد أنّه على نحو ما، وسط هذه العربدة للقوّة المطلقة، ولدهشتي البالغة، أدركتُ أن الناس الذين كانوا يثيرونني أكثر من غيرهم هم فعلياً حفنة أميركيين سود - أناس لا علاقة لهم بالمعجزة الصهيونية أو بقبيلتي الإقصائية الشوفينية·