يقدِّم جلعاد عتسمون سرداً شائقاً وآسراً لرحلته من قومي إسرائيلي متطرِّف إلى مواطن للإنسانية تجرَّد من الصهيونية، وبات مدافعاً متحمِّساً عن العدالة من أجل الشعب الفلسطيني· إنها قصّة تحوّل يرويها بنزاهة مطلقة، بحيث يتعيّن على كلّ أولئك (خصوصاً اليهود) المهتمّ
قراءة كتاب من التائه؟
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
انتقلتُ إلى لندن، وبدأتُ بمتابعة دراساتي العليا في الفلسفة في جامعة إيسيكس· خلال أسبوع، تمكنتُ من الحصول على موقع لي، كموسيقي، في حانة بلاك ليون، وهي حانة أيرلندية أسطورية في شارع كيلبورن هاي رود، في منطقة كيلبورن شمال غرب لندن· في ذلك الوقت، لم أقدِّر كم كنتُ محظوظاً - إذ لم أكن أعرف صعوبة الحصول على فرصة لتقديم أداء موسيقي في لندن· في الحقيقة، كانت هذه بداية انطلاقة مسيرتي المهنية العالمية كموسيقي جاز· خلال عام، حظيتُ بشعبية كبيرة في بريطانيا، مقدماً مقطوعات بيبوب وبوست بوب(14)· في غضون ثلاث سنوات، كنتُ أعزف بمصاحبة فرقتي في كل أنحاء أوروبا·
بيد أنه لم يمض وقت طويل حتى بدأتُ أشعر بالحنين للوطن· ولدهشتي العظيمة، لم أكن أفتقد إسرائيل، أو تل أبيب، أو حيفا، كما لم أفتقد القدس· لقد افتقدتُ فلسطين· لم أفتقد سائقي الأجرة الإسرائيليين الوقحين، الذين تلعلع أصواتهم بالصراخ، في مطار بن غوريون، أو مراكز التسوق المقيتة في مدينة رامات غان (الكائنة إلى الشرق من تل أبيب)، وإنما إلى محلّ صغير في شارع يفيت بمدينة يافا، يقدّم أشهى طبق حمّص يمكن أن تشتريه الفلوس، كما افتقدتُ القرى الفلسطينية الممتدّة عبر التلال وسط أشجار الزيتون والصبّار· كلما راودتْ خيالي فكرة القيام بزيارة للوطن، في لندن، وجدتني ينتهي بي المطاف في شارع إدجْوَر رود(15)، لأقضي الأمسية في مطعم لبناني· ما إن بدأتُ بالتعبير صراحةً عن أفكاري وآرائي إزاء إسرائيل على الملأ، حتى اتضح لي أن إدجْوَر رود قد يكون أقرب شيء إلى وطني·
***
أعترف أنني حين كنتُ أعيش في إسرائيل، لم أكن مأخوذاً على الإطلاق بالموسيقى العربية· أعتقد أن المستوطنين الكولونياليين نادراً ما يبدون اهتماماً بثقافة سكان البلاد الأصليين· أحببتُ الموسيقى الشعبية، وكنتُ قد نجحتُ في اجتراح سمعة لي في أوروبا والولايات المتحدة كعازف موسيقى الـكْلِزْمَر(16)، ومع مرور السنوات بدأتُ بعزف الموسيقى التركية واليونانية أيضاً· غير أنني أسقطتُ تماماً الموسيقى العربية، والموسيقى الفلسطينية تحديداً· في لندن، وبينما كنتُ أتردّد على تلك المطاعم اللبنانية، بدأ يخطر لي أنني لم أستكشف حقاً موسيقى جيراني، والأكثر مدعاة للقلق أنني تجاهلتها، بل إنني صرفتُ النظر عنها· وعلى الرغم من أنها كانت موجودة حولي، فإنني لم أستمع إليها حقاً· لقد كانت هناك في كل زاوية من حياتي: في صوت الآذان المنبعث من المساجد، في أصوات أم كلثوم وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ· كان يمكن سماعها في الشوارع، وفي التلفزيون، وفي المقاهي الصغيرة في البلدة القديمة في القدس، وفي المطاعم· لقد كانت حولي - لكنني، ومن باب عدم الاحترام، لم أعرها أيّ اهتمام·