يقدِّم جلعاد عتسمون سرداً شائقاً وآسراً لرحلته من قومي إسرائيلي متطرِّف إلى مواطن للإنسانية تجرَّد من الصهيونية، وبات مدافعاً متحمِّساً عن العدالة من أجل الشعب الفلسطيني· إنها قصّة تحوّل يرويها بنزاهة مطلقة، بحيث يتعيّن على كلّ أولئك (خصوصاً اليهود) المهتمّ
قراءة كتاب من التائه؟
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
كان هذا كافياً بالنسبة لي· أدركتُ حينها أن علاقتي بالدولة الإسرائيلية وبالصهيونية قد انتهت· ومع ذلك، كنتُ ما أزال أعرف القليل جداً عن فلسطين، وعن النكبة، بل حتى عن الدين اليهودي والأيديولوجيا اليهودية في هذا الشأن· فيما يتعلّق بي، لم أرَ حينئذ سوى أنّ إسرائيل بلدٌ بغيض، وأنني لم أشأ أن تكون لي علاقة بها بعد اليوم· بعد أسبوعين من تلك الواقعة، أرجعتُ زيّي العسكري، حملتُ آلة الآلتو ساكسفون خاصتي، ثم ركبتُ الحافلة إلى مطار بن غوريون وغادرتُ إلى أوروبا لبضعة شهور، كي أعزف الموسيقى في الشارع· كنتُ في الحادية والعشرين من عمري آنذاك، وشعرتُ بأنني حرٌّ للمرة الأولى· لكن شهر ديسمبر/كانون الأول كان شديد البرودة بالنسبة لي، فرجعتُ إلى إسرائيل، وقد عقدتُ العزم على العودة إلى أوروبا· بصورة من الصور، كنتُ أتوق كي أحمل لقب غوي، أو على الأقل أن أكون محاطاً بـالـغوييم(13)·
***
استغرق الأمر عشر سنوات أخرى قبل أن أغادر إسرائيل إلى الأبد· على أنني، في أثناء ذلك، بدأتُ أتعلّم بشأن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، متقبِّلاً بأنني أعيش على أرض تخصّ شخصاً آخر· استوعبتُ الحقيقة المدمِّرة أنه في العام 1948 لم يترك الفلسطينيون بيوتهم طواعيةً - كما قالوا لنا في المدرسة -بل تم تطهيرهم عرقياً بصورة وحشية على يد جدّي وفصيلته· بدأتُ أدرك بأنّ التطهير العرقي لم يتوقف أبداً في إسرائيل، كلّ ما في الأمر أنه اتّخذ فقط أشكالاً أخرى، معترفاً بالحقيقة أنّ النظام القانوني الإسرائيلي ليس منصفاً، بل إنه عنصري التوجّه (على سبيل المثال، يرحب قانون العودة باليهود في وطنهم من أي بلد جاؤوا منه، وذلك بعد ألفي عام كما هو مُفترض، لكنهم يمنعون الفلسطينيين من العودة إلى قراهم بعد عامين من وجودهم في الخارج)· في الأثناء، كنتُ أتطوّر كموسيقي، حيث أصبحتُ عازفاً رئيسياً في جلسات الجاز، ومنتجاً موسيقياً· لم أكن في الواقع منخرطاً في أي نشاط سياسي، وعلى الرغم من متابعتي خطاب اليسار الإسرائيلي عن كثب، إلا أنني سرعان ما أدركتُ أنه كان إلى حدٍّ كبير نادياً اجتماعياً أكثر منه قوّة أيديولوجية دافعها الوعي الأخلاقي·
بحلول اتفاقيات أوسلو في العام 1993، لم أعد أحتمل الأمر أكثر من ذلك· لقد رأيتُ أن صنع السلام الإسرائيلي لم يكن سوى التفاف على الوضع القائم· ولم تكن الغاية منه التصالح مع الفلسطينيين أو مواجهة خطيئة الصهيونية الأصلية، وإنما تأمين وجود الدولة الإسرائيلية أكثر على حساب الفلسطينيين· بالنسبة لمعظم الإسرائيليين، لا تعني شالوم السلام، بل الأمن، ولليهود فقط· وبالنسبة للفلسطينيين، فأنْ يحتفلوا بـحقّهم في العودة ليس خياراً· قررتُ أن أترك بيتي وعملي· تركتُ كلّ شيء وكلّ شخص ورائي، بمن فيهم زوجتي تالي التي انضمتْ إليّ لاحقاً· كل ما أخذتُه معي هو الساكسفون الخاص بي، صديقي الحقيقي·· الأزلي·