أنت هنا

قراءة كتاب المخفي أعظم - قراءات ورؤى

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المخفي أعظم - قراءات ورؤى

المخفي أعظم - قراءات ورؤى

كتاب "المخفي أعظم- قراءات ورؤى"، كتاب نقدي للكاتب الأردني هاشم غرايبة، الصادر عام 2002 عن المؤسسسة العربية للدراسات والنشر، نقرأ من أجوائه:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4
جدّي
 
جدي ليس صورة معلقة على الحائط ولا إرثاً متمثلاً في بساط منقوش، جدي هو الحاضر في الماضي، وهو الماضي في الحاضر، هو حلقة الوصل بيني وبين بدئي، وأنا حلقة الوصل بينه وبين عالم الفضاء المعاصر· جدّي علّمني تقشير الرّاهن المعاش لأرى تبدلات الآبد والمستمر وأراهن على شكل الغد·
 
ليس مهماً أن يكون جدي كل ما قلت أو سأقول عنه المهم أنه كذلك بالنسبة لي·
 
ها أنذا أكتب عنه وأحدّق في السمكة الذهبية المرسومة على الكأس أمامي وأكاد أصدّق أنها تحولت إلى حوريّة مدهشة تسبح بين مكعبات الثلج البلورية! أفرك عيني وأقول ·· لا ·· شبح من سواليف جدي··· ولكن ألا نعيش عصر الثورة العلمية التكنولوجية وفي ذات الوقت نعيش مع الرموز والأشباح أكثر مما نعيش مع المحسوسات والمعقولات؟ أليس المسرح الخرافي ناشطاً فينا ليلاً ونهاراً؟ بالمناسبة هل تقرأ برجك أو فنجانك أو خطوط يدك ؟··· من دون هذا المسرح الذي تستخدم فيه آلاف الحيل السحرية، هل يمكننا تحمّل فجاجة الواقع من حولنا؟! هذه المعركة السحرية تتوازى أو تتقاطع باستمرار مع كفاحنا العلمي واليقظ لإنجاز واجبات كل يوم·
 
ها هي سيرة جدّي تتسرب إلى لحظتي كما السحر، فأرى على ضوء سراجه الزمن الراهن، وأثر العادات والتقاليد والمعتقدات والديانات التي مرّت منذ أشعل الإنسان البدائي النار بالحجر إلى عصر غزو الفضاء، كلّها تتجاور وتتحاور ولا شيء يجبّ ما قبله، بل السابق يطبع أثره في اللاحق، والحاضر يستند على الماضي لينطلق نحو المستقبل·
 
جدي واجه زمانه ومكانه بأدواته وكان رائداً في الحيّز الذي عرفه والزمان الذي عاشه، لكني وأنا أعيد إنتاجه فإني أعيد إلى العالم صورة مبتكرة أحاول أن أقنعه بها وأحاول أن أجد له - لي - لنا - مكاناً في مشهد إنساني يعترف بالجميع ويعطي كلّ لون حقه الطبيعي في تشكيل قوس قزح يُزنّر هذا الكون، ويشدّ أزره ليواصل حركته إلى ما لا نهاية·
 
لم يكن في مثل سني، لكني لم أجد غيره حين جئت إلى هذا العالم·
 
هذا الصديق·· هو جدّي، أكاد أسمع صوته يغني العتابا فأزجره ليسكت، ثم يتحول ألى الميجنا فأنصت وأطلب المزيد· عشت السنوات الأولى من عمري استمع لقصصه التي عاشها والتي تخيلها، كما حفظت أشعاره البدوية التي كان يغنيها باستمتاع غريب·
 
جدي له الرحمة ولحوارة الغيث، كان وصافاً ماهر يتحدث لي مفترضاً أني أعرف ما يعرف ناسياً أو متناسياً فارق السن، أنشغلُ بملاحقة الصور متعرفاً على الشخص أو الحادثة، فما أن يكمل حديثه حتى أشعر فعلاً أني على علاقة وطيدة بما يروي فيبتسم كطفل خبيث·
 
كان على (تناص) دائم مع حكاياته، القصة أو القصيدة يرويها بأشكال مختلفة·· دائماً هناك إبدال وإحلال ودلالة جديدة·· كنت أظنّه ينسى، لكني الآن أكتشف أن كل تغيير على النص مهما كان طفيفاً يغير الدلالة والمعنى والمبنى·· أكاد أراه يخرج لي لسانه هازئاً بي، فهو حاضر دائماً حين أكتب، وأشد ما أخاف سخريته··· فهو ساخر بطبعه، يستعمل الوصف للسخرية، ويقلب الموقف ويغير الدلالة للسخرية ··· يسخر من كل شيء وعلمني أن لا شيء يستحق الإنبهار والدهشة إلاّْ المرأة والشعر والربابة والشبابة والحكاية· أما الواقع فلا يستحق منّا إلاّ السخرية لنستطيع أن ندهش به·
 
كلما تقدمت بي التجربة، أتذكر أني كنت أصنع زوارق ورق أدفعها في قناة النبع فتسري مع التيار ولا أخشى عليها الغرق ، الآن وقد صار الزورق سفينة ذات الواح ودسر، تأبى السير مع التيار، فإني أخشى عليها الغرق· دائماً هي الأمور هكذا، كل جيل يرى المياه الصافية في البدء تجري بدون طين ··· أتذكر أنها كانت خالية من الكلور، واللوز البري يزهر ملاحقاً البراعم الحمراء··· إلى ذلك العالم سارت (النبوءة) ولم يعد يراها أحد·

الصفحات