أنت هنا

قراءة كتاب الزيت المبارك

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الزيت المبارك

الزيت المبارك

رواية "الزيت المبارك"، للكاتب الأردني أكرم السواعير، الصادرة عن دار العثمانية للنشر والتوزيع، نقرأ من مقدمة الكاتب:
ذاكرة الإنسان شيء عجيب ومن أعجب ما خلق الله!
كيف يتم التخزين فيها؟
كيف يتم ترتيب المعلومات؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 2

يتجه إلى البرميل الأخضر ليملأ الإبريق القديم. تتزحلق قدمه على الأرض الطرية فيتدارك نفسه ويتمسك بالغصن الضخم المتدلي من شجرة المشمش.
يتابع بعينيه الشجرة التي تتفرع أغصانها كثيراً وتسمو عالياً حتى تكاد تغطي سطح الغرفة، وتحمل في شهور الصيف قطوفاً كثيرة من حبات المشمش الحلو ذات الحجم الكبير، والتي تلفت نظر كل من يراها، حتى كان ذلك اليوم.
اليوم الذي حضرت فيه لزيارة أم حاتم الجارة أم عطية بوجهها الجاف، وعينيها الحادتين اللتين تتحركان دون استقرار، ولسانها الذي يسأل عن كل شيء حتى البيضة من باضتها.
أجلستها أم حاتم في ظل المشمشة لتحميها من حر الشمس ولتعرضها للنسمات الغربية المنعشة.
جلست أم عطية متثاقلة وهي تفضل الجلسة في البيت لتكون أقرب إلى حاجيات الضيافة.
تنتبه أم عطية للشجرة وتطلق سيلا من التأففات والأسئلة دون انتظار الإجابة أو سماع التعليق:
- «أف ما أكبر المشمشة!»
- «ربما تكون شجرة كينا أو حور»
- «غير معقول تأكدوا!»
- «أعطوني شتلة أو شتلتين من نوعها وأنا أزرعها»
- «ما عدد الصناديق التي تحملها في السنة؟ وشتلتها من أحضرها؟»
- «لا تنسوني من صندوق أو صندوقين».
ترد أم حاتم بعد كل قذيفة من أم عطية وقلبها ينبض بشدة:
- «قولي ما شاء الله. صلي على النبي. الطف يا لطيف، عزك يا عزيز».
فلا تعيرها أم عطية اهتماماً حتى ينتفض الجميع على الصوت الهائل الناتج عن السقوط المدوي لنصف الشجرة الآخر، وكأنها نشرت بمنشار ولولا لطف الله الكريم لكان النصف الذي يجلسون في ظلاله.
سقطت من عيني أم حاتم دمعتان، وأخذت تسوي منديلها بسرعة دون وعي وهي تهمهم:
- «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. أخ ما أقوى عينها! الحمد لله أنها انطفأت في الشجرة»
تلتفت إليها أم عطية معترضة:
- «ماذا تقولين يا أختي؟»
ترد أم حاتم بتلعثم وهي تحرك راحتها في وجه أم عطية مهدئة:
- «لاشيء لا شيء. اشربي شايك يا أم عطية. أهلا وسهلا»
تهدئ أم عطية من نبرتها وبؤبؤاها يتراقصان بسرعة ثم تقول:
- «أهلا بك. انتهى عمرها يا أم حاتم. شباب مثل طلق الريحان يموتون بأهون الأسباب. الله سترنا فلم نكن تحتها»
يتوضأ ويزداد صحواً ونشاطاً تحت لسعات الماء الذي لم ترتفع حرارته بعد، ويصلي وهو يعاهد الله على عدم تأخير الفجر عن وقتها.
تصل إلى أعماقه رائحة أوراق الزيتون المحترقة المختلطة برائحة خبز الشراك، فيسرع ليجلس على حجر بالقرب من الصاج، وهو يتابع تقلبات الرغيف بين كفي أمه وهي توسعه إلى أكبر مدى ممكن حتى يكاد يلتصق بمرفقها، فتلقيه على الصاج الساخن، و بحافة راحتها تسوى بعض المناطق.
تمسح دموعها المتساقطة بفعل الدخان المتماوج تبعا لحركة الهواء، ثم تقلب الرغيف على الجهة الأخرى بأطراف أصابعها لتطرحه بعد ذلك على القماشة.
يمد حاتم يده ليقطع من الرغيف بسرعة فيلسع أصابعه فتسقط القطعة، فينفض يده في الهواء من حر اللسعة قائلا:
- «آه ما أحماها! والله كأني أمسك جمرة»
فترد أمه وهي تقلب الرغيف وكأنها تتكلم في منامها:
- «قعدتك قعدة أبيك، ونفس طريقته -الله يرحمه- كل شيء تريدونه بسرعة»
وتبدأ بحكاية أبيه التي سمعها ألف مرة وهي لا تمل من تكرارها وكأنها ترويها للمرة الأولى:
أبوك له عينان سوداوان واسعتان. في نظراته نسر الأعالي أو الصقر السريع الانقضاض. طويل كأنه الرمح الصاعد. بطنه مستقيم لا زيادة ولا نقصان.
حسن الوجه رغم خشونته الظاهرة. يحمل أنفا عاليا يوحي إليك بأن صاحبه عزيز النفس مترفع عن الدنايا.
لو كانت له صورة - يا حسرة - لأريتك إياها لتعرف قيمته.
إذا تكلم فكلام متزن باطمئنان وثقة. يأخذونه لقضاء الحاجات والصلحات على صغر سنه لأنه نجيب لا يرد.
لم أنكر عليه إلا عجلته الدائمة في كل شيء، وكأنه كان يحس -رحمه الله- أن عمره قصير وسيموت في الخامسة والعشرين، فيسرع كثيرا لقضاء الحاجات التي لا تنتهي.
وتزداد قطرات الدموع من عينيها، ولا يعرف أهو من أثر دخان الصاج أم من هبوب الذكريات، فتمسح دموعها بكمها الطويل، وتتابع عصر الكلمات:
رآني فجأة في بيتنا وهو يهم بالعودة - والله عليم إني ما رفعت عيني عن البساط - فتعلق قلبه بي. لكنه ليس مثل شباب هذه الأيام فلم يزد على أن قال:
- «الله يحفظك يا بنت عمي»

الصفحات