رواية "الزيت المبارك"، للكاتب الأردني أكرم السواعير، الصادرة عن دار العثمانية للنشر والتوزيع، نقرأ من مقدمة الكاتب:
ذاكرة الإنسان شيء عجيب ومن أعجب ما خلق الله!
كيف يتم التخزين فيها؟
كيف يتم ترتيب المعلومات؟
أنت هنا
قراءة كتاب الزيت المبارك
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الزيت المبارك
(2)
أتأمل الوادي العريض أمامي، أنظر إلى الغرب كالعادة، وأرتفع نحو الأفق.
شمس ما بعد العصر ضعيفة وغير مؤذية وهي مشغولة بلملمة أشعتها استعداداً للغياب.
إنها كالجندي المهزوم الذي يريد الهرب من ميدان المعركة فلا يستطيع التصويب خلفه. ولو أطلق فطلقات طائشة يحاول بها تأخير طلائع المنتصرين الذين يجرفون كل شيء أمامهم، أو يسوونه بالأرض (كالمدحلة). المدحلة التي تطحن الحجارة والحصو والزفت وتجعله بساطاً أسود.
أنزل ببصري من الأفق إلى حافة الوادي البعيدة حيث تسمو أشجار البلوط والسرو لتشكل حدوداً طبيعية للوادي من الجهة الغربية.
تحت الأشجار تنحدر الأرض بشكل قائم بارتفاع ثلاثة طوابق على امتداد الجهة الغربية وبطول ثلاثة أميال.
هذا المقطع الطولي القائم تغطي حافته نباتات غريبة متدلية متشابكة طويلة تنمو إلى الأسفل، وكأنها خصلات وحشية من الشعر المسترسل من غير تهذيب على كتفي غول أو عملاق.
تلتقي هذه الأعشاب المتدلية بقمم أشجار اللوز والتين التي نمت بشكل فارع وهائل وعلى سيقان ضخمة طويلة وكأنها تريد الخروج من الوادي.
أتابع بنظري هذه الجهة التي تمثل مقتلاً للغرباء الذين لا يعرفون طبيعة الوادي، وقد يسقطون في منحدراته الشاهقة كطائر حزين أصابته قذيفة الصياد، فراح يهوي متقلباً بلا وجهة محددة.
المدخل الغربي للوادي عبارة عن ثلاث دروب ضيقة تتلوى بين الأشجار كأفاع بنية ضخمة، ولا يعرفها سوى سكان المنطقة الذين يستطيعون عبورها على أرجلهم أو دوابهم.
ثم تستوي الأرض بعد ذلك على شكل سهول واسعة ومسطحات خضراء جميلة تتراكب حوافها على شكل درج أخضر واسع تغطيه الخضراوات بمختلف أنواعها.
وكل سهل من هذه السهول تحيط به سلسلة من الأشجار المتشابكة كالتين والزيتون والصبر مشكلة حدوداً فاصلة بين المزارعين تمنعهم من الاشتباك، وتحفظ تربتهم من التنقل من أرض إلى أخرى.
أصل أخيراً إلى قعر الوادي حيث تصدم طبلة أذني أصوات خرير المياه القوية، وتطاحنها الدائم خلال صراعها اليومي الذي لا ينتهي.
هذا السيل يستمد مياهه من ينابيع البلدة الغزيرة والكثيرة، والتي تتشابكك قرب الوادي الكبير لتشكل عدة شلالات في انحدارها المستمر نحو الأسفل.
تنمو في مجرى السيل أشجار الدفلى بأزهارها الجميلة، وعلى الحافتين تتطاول أشجار الحور والكينا، لتسمو عاليا جداً محاولة من بعيد موازاة مطلع الوادي الكبير، ولكنها تبقى على سموقها عاجزة كثيراً.
تحلق حول الأغصان العالية في الوادي أسراب من عصافير الدوري المتصارعة، ووفود من الطيور المهاجرة الغريبة الأشكال، والتي تحضر كضيوف في كل عام في مواعيد متفق عليها.
أصوات مختلطة تنبعث من حركة أغصان وزقزقة عصافير ورفيف أجنحة وتطاير ريش. وأسمع من هنا وهناك تغريداً عذباً لبعض الحساسين يقطعه نعيق غراب أو صياح بومة.
ثم تتشابك السهول والمسطحات في الضفة الأخرى من الوادي حتى تقف عند المقطع الشرقي الأقل ارتفاعاً من المقطع الغربي.
المقطع الشرقي أيضا لا يمكن عبوره إلا بالدروب الضيقة الملتوية التي مهدتها أرجل المزارعين وحوافر دوابهم من زمن الإنسان الأول.
حافة الجهة الشرقية تغطيها الأعشاب المختلفة، وتتشابك عليها أشواك البلان المتكورة ذات الحجم الضخم، والتي تتداخل فيما بينها على شكل ثلاثة أو أربعة صفوف على امتداد الجهة الشرقية، وكأنها صفوف الجنود المنبطحين خلف بنادقهم متمسكين بتربة أرضهم منتظرين قدوم الأعداء.
أتوقف عند الشجرة الوحيدة على الجهة الشرقية والتي أجلسفي ظلالها بجذورها العارية القوية التي تتمسك بالتربة المائلةبمخالبها المعقوفة.
أتأمل الساق السمين الملتوي الذي يرتفع بعد ذلك عالياً مشكلاً مظلة من الأغصان والأوراق السوداء التي تصنع ظلالاً بحجم غرفتين.
أقطف قرناً أو قرنين من ثمار الخروبة لألوكه قطعة قطعة، وأنا أمتص السائل الحلو القليل، ولأبصق الخيوط المتبقية والتي تجعل فمي دبقاً متماسكاً.
أمد يدي كالعادة وأمسح بحنان على الساق الثخينة الخشنة والتي امتلأت بالندوب والأسماء وقلوب الحب، ويدي الأخرى تتحرك على وجهي، وتتابع تجاعيد بدايات الستين والجلد الذي صار أشبه بمطاط إطارات السيارات.
أضغط على الساق الضخم بكلتا يديّ للاطمئنان على قوة الشجرة، وأرتاح عندما أجدها راسخة قوية لا تتحرك.
أتفقد الجذور البارزة الملتوية، وأكوم عليها الأتربة بيدي العاريتين، وأتذكر إبريق المياه الذي أحضرته لها في المرة السابقة، ودلقتهعلى جذورها.
- «هل يوجد عاقل واحد يسقي شجرة خروب برية يا حاتم!
خروبة تعيش لوحدها من زمن سيدنا آدم عليه السلام!»
أضحك وأنا أرد على صديقي أبي محمود بعباراته الغريبة:
- «والله يا أبا محمود، إنها في غلاوة أولادي علي وحمزة وطارق»
فيرد في تخابث:
- «وابنك صالح لماذا لا تأتي على ذكره؟»
- «اتركنا من صالح الآن»