رواية "الزيت المبارك"، للكاتب الأردني أكرم السواعير، الصادرة عن دار العثمانية للنشر والتوزيع، نقرأ من مقدمة الكاتب:
ذاكرة الإنسان شيء عجيب ومن أعجب ما خلق الله!
كيف يتم التخزين فيها؟
كيف يتم ترتيب المعلومات؟
أنت هنا
قراءة كتاب الزيت المبارك
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الزيت المبارك
فاحمر وجهي وركضت متعثرة بثوبي، وأنا أكاد أصدم الجدار.
ولم أقعد في بيت أهلي أكثر من يومين أو ثلاثة حتى حضرت الجاهة الكريمة طالبة أمينة لابن عمها فارس.
وفي لحظات تم تحديد متطلبات الزواج التي لم تزد على فرشتين من الصوف وبساط وصندوق،... وليس مثل تعقيداتكم.
مدت أربعة مناسف وليمة للزواج وليس مائة منسف. وهذه المناسف يأكل منها الرجال أطواراً، كلما شبعت مجموعة تلتها مجموعة، وكل مجموعة تحسب حساب من بعدها فلا تأكل الأخضر واليابس.
وبالأهازيج الجميلة التي انطلقت مدوية في ليالي تشرين، وعلى قرع فناجين القهوة التي لم تنطفئ نيرانها أياما عديدة:
يا بو رشيدة قلبنا اليوم مجروح
جابو الطبيب ومددوني على اللوح
ظليت أنادي واطرق الباب بالسيف
جرحا غميقا بالحشا مستظلي
قلت برخه لما عشيري يصلني
عيو يا بابي هيلك ما يفتحولي
وتم زفافي على ابن عمي الذي استقبلني مترنماً مرحباً، والفرحة تتطاير من عينيه وهو يكاد يرقص من البهجة:
جتني تيبرقع
ربي أعطاها جوز
لابسه ثوبي برقع
العيون سود وساع
وكانت أياماً جميلة انقضت على عجل وكأنها إطلالة البدر المفاجأة بين الغيوم.
وما لبث أبوك أن طار إلى أطراف البلاد مع أصحابه عاملاً مع (الخواجات) القادمين من وراء البحار، والذين يحملون معهم أكياساً كبيرة من الشقاء والتفريق بين الأحباب ثم يفرغونها في بلادنا، ويملأونها مرة أخرى بالمعادن التي يسيل في سبيلها العرق الكثير، ويختلط بحجارة الصوان والحثان والتراب والطين.
ويتدفق شلال من الدم الحار المهدور الذي لا يطالب به أحد، يتدفق على التراب الغض الأحمر.
ويدفعون من الأجر الفتات، ليستمر هطول العرق على الوجوه المحروقة من حر الشمس.
ويعود أبوك لاهثا ليمتص إجازاته المتباعدة امتصاصا، وقد ملأ حقيبته الجلدية من خيرات الأسواق.
يعود وقد اكفهر لونه وجف جسمه وصارت الحياة تتبخر منهشيئا فشيئا.
وعندما أسأله مشفقة خائفة:
- «تتغير كثيراً يا عيوني. لو تترك هذا الجحيم. أنا خائفة أن تتركني ولا تعود»
فيجيبني متغابيا وهو يحس بما أحس به ولكنه يريد أن يريحني:
- «يا بنت الحلال أنت نصيبي وأنا لا أخون الصحبة»
فأرد عليه بصوت خفيض حتى لا أثير مخاوفه:
- «أنا يا عيوني لا يهمني سوى صحتك التي أراها متراجعة. وأدعو ربي من عليائه بأن يحفظك بحفظه وييسر لك أبناء الحلال»
فيجيبني متنهداً متصنعاً الهدوء والطمأنينة:
- «توكلي على الله. الله يحفظك يا أعظم كنوزي»
فأضع يدي على بطني، وأقول له:
- «أنا خائفة عليك، وأحب أن تكون بجانبي في ساعة الولادة التي أراها قريبة»
- «توكلي على الله. لعل ولادتك تكون في إجازتي. والأقارب بجانبنا وهم لا يقصرون»
ويحضر الجيران والأقارب وتستمر الأفراح أسبوعاً كاملاً بطول الإجازة، حيث لا يخلو البيت من الزائرين الذين عضهم الجوع، فنطبخ يوميا ما يكفي القبيلة.
وسرعان ما يرحل الأسبوع وكأنه بعض يوم.
وهكذا الأيام السعيدة يهرول فيها الزمن دون توقف، وكأنه السحاب الذي تطرده الرياح العاصفة خلف الجبال.
وما نلبث أن نفترق فاللقاء فعلا بداية الفراق. وتنهمر دموعي رغماً عني وأنا أخفيها، وهو ينشغل بتحضير أغراضه، ويمنع عيونه من مصافحة عيوني حتى لا يضعف أمامي، ويترنم بشيء من اللحن الحزين، ليشعرني براحته وعدم انزعاجه.
وما أصعب لحظات الوداع التي لا يعرفها إلا من تذوق مرارتها تحت لسانه! الزمن يزحف فيها كالسلحفاء المشلولة. الدموع تتزاحم في العيون وكأنها نبع أوائل الربيع. الأفواه ضيقة جافة كأنها مجموعة من أخشاب البناء الخشنة. الكلمات تنتزع انتزاعاً متفرقة الحروف وكأنما الأسنان المتشنجة تقوم بتمزيقها.
وأخيرا يخرج أبوك متثاقلاً مجرجراً ساقيه، وكأنه يريد إلقاء نفسه في واد سحيق أو في هوة من النيران المتوهجة. فأتبعه بعيوني حتى تلتهمه الدروب الضيقة ويغيب خلف مرتفعات العويليا التي تخفي كل شيء.
النساء القاسيات يلمنني على بكائي خلفه:
- «أنت بألف نعمة. الجدران لا تطعم خبزاً. ويا ليتنا نستريح من همَ أزواجنا نحن أيضاً»
فأجيبهن بدموعي وقلبي يتفطر من الألم:
- «قلبي يا ناس. قلبي يا ناس. والله إنه خائف وغير مرتاح»
- «من أي شيء يا مجنونة؟»
فأرد عليهن وأنا مقتنعة أنهن لن يفهمن، فما نحسه ونشعر به في قلوبنا يكون في أحيان كثيرة أقوى من الكلمات والتعابير:
- «زوجي يا أخواتي. روحي. دم قلبي. يذوي ويذوب أمام عيوني ولا أفعل له شيئاً »
فتعلق إحداهن بخبث وعدم تصديق:
- «والله كأنهما قيس وليلى»
فيصلني التعليق فأرد مغتاظة:
- « نعم كان يحبني من كل قلبه»