أنت هنا

قراءة كتاب الزيت المبارك

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الزيت المبارك

الزيت المبارك

رواية "الزيت المبارك"، للكاتب الأردني أكرم السواعير، الصادرة عن دار العثمانية للنشر والتوزيع، نقرأ من مقدمة الكاتب:
ذاكرة الإنسان شيء عجيب ومن أعجب ما خلق الله!
كيف يتم التخزين فيها؟
كيف يتم ترتيب المعلومات؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

يتابع مستنكراً:
- «ثم إلى متى زياراتك الأسبوعية إلى الخروبة؟ كل يوم جمعة بعد العصر! كل يوم جمعة بعد العصر! مثل ساعة (بق بن)»
- «والله يا أبا محمود أحس بشيء يشبه المرض عند عدم زيارتها. ولا أدري عن السبب. أهو فيئها أم هواؤها أم خروبها أم مشاهدتها! أحس معها بعلاقة إنسانية دافئة»
تهب نسمات منعشة من الوادي الكبير، فتحرك أغصان الخروبة، وتزيدني انشراحاً وتوسع غرفات قلبي.
أتذكر هواء المعسكر بجانب قرية (الفادية) حيث الهواء الممزوج برائحة الأعشاب البرية والذي يفتح مسارب في الدماغ، وينسيك العدو الرابض أمامك خلف الجدر والمتاريس على بعد عشرات الأمتار.
العدو الذي يتحرك مسرعاً إذا مشى في الأرض المكشوفة بلا سواتر، وكأنه الأفعى إذا تناوشتها الحجارة القاتلة.
أتذكر الأخبار الأولى عن العدو القادم من وراء البحار، والذي تتقيؤه البواخر الضخمة على شاطئ المتوسط، لينتشروا في الأرض بعد ذلك انتشار الجراد في حقول القمح.
لماذا لا يبقون في بلادهم ويرضون بالمقسوم؟
أو فلينتقلوا إذا لم يكونوا مرتاحين إلى بلاد تحاذيهم ويفهمون لغتها! لماذا نحن دائما الحائط المنخفض؟ أم أن الحمار القصير يركبه الجميع، ويتعلمون عليه مهارات الفروسية!
أم أن هذه المنطقة يجب أن تبقى في سباتها العميق، فيزرعون في أرضها الشياطين الذين يفرضون عليها طقوس النوم وفنون الفراش (أمامك ليل طويل فنم)!
كانت أخبار المذابح التي تنفذها عصاباتهم في حق النساء والأطفال والشيوخ تصل إلى كل مكان، وتلقي في الروع أنهم من جنس آخر.
ربما تزاوج محرم بينهم وبين وحوش منقرضة من آكلة اللحم.
ترتسم ابتسامة على شفتي عندما أتذكر طفولتي واعتداءاتهم الوحشية، حيث كنت أظنهم يختلفون عن أشكالنا بآذانهم الزرقاء الطويلة وأنوفهم الحمراء المدببة.
يلفح وجهي هواء الحراسة البارد في ليل كانون الذي يقص المسمار.
النعاس يثقل أجفاني في الهزيع الأخير من الليل حيث السواد يشكو من السواد.
المعطف الشتوي الثقيل يدخل إلى جسمي بعض الحرارة، ويثقل كاهلي مع البندقية ومخازن العتاد. أصابع قدمي قطع من الجليد الحاد أحس بها عند الحركة فقط.
أتحرك في الظلام الدامس ببسطاري الأسود ذي الرقبة الطويلة محاذياً سياج المعسكر من أجل بعض الدفء، ولطرد النعاس.
أمد يدي في جيوبي باحثاً عن قطعة من (البسكويت) العسكري لأطحنها في فمي من أجل نشر بعض الحرارة.
أقرأ سورة (الإخلاص) عدة مرات. أكرر قصار السور. أشعر بالأنس مع القرآن وبرعاية رب العالمين وحفظه.
أسمع وقع أقدام، فأسكن وأحرك بندقيتي باتجاه الصوت، وأصرخ هاتفاً:
- «كلمة السر؟ عرّف عن نفسك»
أصيخ السمع، وإصبعي يتراقص على الزناد ويغلق المنطقة الفارغة منه استعداداً للرمي، إذ لا مجال للتردد في هذا المكان، فالأوامر واضحة قاطعة:
إذا لم تسمع الكلمة الصحيحة فأطلق النار فإنما هو عدوك.
إن لم تقتله قتلك وقتل إخوانك، ولوث المنطقة تحت قدميك.
يجيبني بصوت جاد خفيض، وهو يحرك يمناه:
- «قبة. أخوك عريف الخفر حمدان. ما شاء الله صاح يا حاتم!»
- «بالطبع. الله موجود. ثم البرد والعدو والعقوبات. من أين يأتي النوم؟»
تبتلع الظلمة حمدان وأنا أتأمله بإعجاب بقامته الممدودة الرشيقة، وبسمرته اللطيفة، وبتدينه الفطري الصادق.
كان مثلي جندياً حافياً يخرج في نوبات الحراسة المتتالية على مدار اليوم والليلة إلا أنه وبقفزة واحدة وبقدرة قادر صار عريفاً بشريطتين.
حدثني بالتفصيل الممل عن ترفيعه، فالجنود على الجبهات يحبون التفاصيل والتفريعات والدقائق غير المهمة، وكأنهم يطمئنون أنفسهم بأنهم في الحياة العادية بتفصيلاتها التي لا تنتهي.
حدثني بعفويته قائلا:
- «كنت أخدم في معسكر (الهادي) على بعد سبعة أميال من (الفادية) والعدو على بعد سبعين متراً عنا وأنا أراه صباحاً ومساءً.
آيات القرآن على شفتي ولا تفارق لساني وقلبي.
آيات الشهادة لها معزة خاصة عندي، وتدخل لنفسي السكينة والخشوع. إذا كررت آيات الشهادة ثلاث مرات تسقط دموعي بسهولة من غير تكلف.
ثم يتلوها بخشوع بلكنته البدوية التي ما زالت ترن في أذني منذ ذلك الحين: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران:169]
كلما خلوت إلى نفسي ومرت بذاكرتي صور السياج والخنادق والمعارك، أسمع صوت حمدان من وراء السحب يردد هذه الآيات.

الصفحات